الاثنين، 11 مايو 2015

الأسرة اللغوية النوستراسية


ما أن وضعت أسس علم اللغات المقارن وقواعده لأول مرة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى بدأت الأسر اللغوية التي نعرفها ونألفها الآن بالتتالي والتتابع في ظهورها . إذ حدد الباحثون اللغويون الأوائل ومنذ عهد مبكر جدا أسرة اللغات السامية , والتي شملت كلا من اللغات العربية والعبرية والآرامية والفينيقية والأكادية وغيرها من لغات الشرق الأدنى التي سكنت قديما أو ما تزال تسكن إلى الآن أراضي الهلال الخصيب وبوادي الجزيرة العربية (1) . مثلما حددوا أسرة اللغات الهندية الأوروبية أو الهندوأوروبية , والتي ضمت تحت جناحها كلا من لغات شمال الهند وإيران ولغات اليونانيين والجرمانيين واللاتينيين والسلاف (الروس والأوكرانيين والصرب وسواهم من شعوب شرق أوروبا) , وسواها من لغات الشعوب التي تنتشر حاليا على طول القوس الواصلة بين شمال الهند وغرب أوروبا , والتي انحدرت جميعها من الشعب الهندوأوروبي الأول . ولأن البحث المتواصل والعمل الدؤوب في هذا المجال استمر  من دون انقطاع طوال قرنين من الزمن فقد تمكن الباحثون تدريجيا من تصنيف معظم شعوب وأمم العالم بحسب لغاتها ولهجاتها , مثلما تمكنوا من إلقاء بعض الضوء على الماضي القديم لتلك الشعوب ومن رسم خطوط هجراتها التي عجز التاريخ المكتوب وحده عن ملاحقتها أو عن كشف أسرارها , ليصير علم اللغات المقارن بنتيجة ذلك خير عون للباحثين وللمؤرخين في إعادة كتابة الفصول الغامضة والمنسية من تاريخ الحضارة البشرية . 

مناطق الانتشار الأصلية لأسرة اللغات الهندوأوروبية
(رمز الصليب المرسوم إلى جانب اللغتين الأناضولية والتوخارية يشير إلى أنهما لغتان منقرضتان حاليا)

وهكذا فقد تتالت الأسر اللغوية المختلفة على خطا السامية والهندوأوروبية في الظهور واحدة تلو الأخرى , وبدأت لغات ولهجات شعوب العالم المختلفة تنتظم جميعها وتصطف وتترتب ضمن مجموعات لغوية واضحة الحدود وبينة الخصائص . فظهرت الأسرة الألطائية التي شملت اللغات المنغولية والتركية واليابانية والكورية , وظهرت الأسرة الأورالية التي شملت اللغتين الهنغارية والفنلندية وبضعة لغات أخرى أصغر منهما سكنت الشمال الأوروبي والآسيوي الأقصى , وظهرت الدرافيدية التي شملت كافة لغات جنوب الهند , والكارتفيلية التي شملت لغات جنوب القوقاز (2) . ثم اكتشفت أخيرا الأسرة الأفريقية الآسيوية أو الأفروآسيوية , والتي جمعت ضمن نطاقها كلا من الأسرة اللغوية السامية والمصرية القديمة (المحكية زمن الأسر الفرعونية) والبربرية وبضعة أسر لغوية أخرى سائدة حاليا في شرق ووسط أفريقيا , والتي ردتها جميعها إلى لغة أصلية مشتركة قديمة عاشت في فترة تتراوح بين 10000 إلى 18000 عام قبل الآن هي اللغة الأفروآسيوية الأم  Proto-Afroasiatic language. ففتحت الأفروآسيوية الباب بذلك أمام نوع جديد من التصنيفات اللغوية هو الأسرة الكبرى , والتي صارت تتألف من عدة أسر لغوية مستقلة ومؤسسة سلفا عثر بينها على صلات قديمة أكدت انحدارها كلها من سلف قديم ولغة واحدة كانت الأصل لها جميعا .

مناطق الانتشار الحالية للأسر اللغوية الأفروآسيوية

وما إن بدأت مرحلة الأسر اللغوية الكبرى هذه حتى ظهر ضمن المدارس اللغوية توجه جديد ذو طموح كبير , حدد هدفه في العثور على السلف المشترك القديم الذي انحدرت منه كل اللغات البشرية التي نعرفها الآن أو معظمها على الأقل . وللأسف فقد أثبت هذا التوجه عبثيته وعدم جدواه , إذ كان من الواضح أن البحث عن اللغة البشرية الأولى ما يزال حلما بعيد المنال , تعجز عنه وسائل علم اللغات المقارن التي ما تزال (وحتى الآن) غير قادرة على الغوص في عمق الماضي لأكثر من ألفيات معدودة من الزمن فحسب .
غير أن جهود اللغويين في هذا المجال لم تذهب كلها سدى . فبرغم فشلهم في العثور على اللغة البشرية الأولى كان من الواضح لديهم أنهم قد عثروا بالفعل على شيء شديد الشبه بها . كان ما عثروا عليه هو لغة قديمة جدا تم تحديد عمرها بحوالي الخمسة عشر ألف عام قبل الآن , وبالرغم من أنها لم تكن بكل تكيد السلف لكل اللغات البشرية الحالية , إلا أنها كانت على ما يبدو سلف 90% منها ! كانت تلك هي اللغة النوستراسية الأولى .
كانت اللغة النوستراسية الأولى حسب الباحثين المدافعين عن الفرضية النوستراسية سلف كل من الأسر الأفروآسيوية , والهندوأوروبية , والألطائية , والأورالية , والكارتفيلية (القوقازية الجنوبية) , والدرافيدية , وربما العيلامية حتى (حسب بعض الباحثين) , أي أنها كانت اللغة الأم لكل الشعوب الساكنة في الرقعة الممتدة من وسط آسيا شرقا حتى المحيط الأطلسي غربا , ومن ألمانيا واسكندنافيا شمالا حتى الصحراء الأفريقية الكبرى جنوبا . ولما كانت هذه الفرضية مفرطة في جرأتها ومدعومة بكم كبير من الأدلة التي تبرر تلك الجرأة فقد سطع اسمها بشدة ولمع نجمها منذ أن ظهرت لأول مرة في مطلع القرن العشرين , ونالت سريعا شهرة واسعة مثلما أثارت وسط الباحثين اللغويين جدلا عنيف ما يزال مستمرا حتى يومنا هذا . غير أن هذا الجدل العنيف المتواصل  لم ينف أبدا وجود نقاط رئيسية ثابتة اتفق عليها معظم المؤيدين للفرضية النوستراسية . وفي مقدمة تلك النقاط نجد العمر المفترض للغة النوستراسية الأولى , والذي يعود بها وفي معظم النماذج التاريخية إلى العام 12500 قبل الميلاد , مثلما نجد الموطن الأصلي لتلك اللغة , والذي يحدد عادة ومن قبل معظم الباحثين على أنه كان في الهلال الخصيب في الفترة التي سبقت تماما اختراع الزراعة .
إذا أردنا أن نعبر عن نظرة عموم الباحثين الحالية إلى الفرضية النوستراسية فيمكن لنا أن نقتبس مقولة أحد اللغويين : "there's too much there to be nothing , but not enough there to be something" . فبالرغم من عدم العثور على الدليل الكافي للبرهان على صحة هذه الفرضية حتى الآن (3) إلا أن العاملين في الحقل اللغوي حددوا العديد من الروابط اللغوية والسمات المشتركة التي تجمع بين الفروع النوستراسية المفترضة , والتي وإن كانت لا تكفي تماما للجزم بحقيقة انحدار تلك اللغات من سلف واحد مشترك قديم , إلا أنها حكما وفي الحد الأدنى تكفي للجزم بأن تلك اللغات كانت عند ميلادها محصورة ضمن بقعة جغرافية واحدة مشتركة حققت لها تلك الدرجة العالية من التشابه في الشكل والقواعد والضمائر والمفردات , وذلك بغض النظر عن كونها منحدرة من سلف واحد مشترك أم لا .
وبناءا على ذلك , وحتى وإن كانت الفرضية النوستراسية غير مثبتة تماما حتى الآن فأن من الثابت لغويا وجود الشعوب النوستراسية الأولى ضمن الهلال الخصيب حوالي العام 12500 ق.م , وذلك قبيل اختراع الزراعة وبدء تلك الشعوب بالتوسع والهجرة إلى أقاليم العالم المختلفة . ولذلك فإن دراسة هذه الأسرة اللغوية تبقى في جميع الأحوال ذات أهمية عالية في إعادة كتابة تاريخ الهلال الخصيب ورسم مسار الهجرات الزراعية التي خرجت منه إلى أقاليم العالم القديم .

مناطق الانتشار اللغوية النوستراسية بفروعها , الأفروآسيوية والكارتفيلية والدرافيدية والألطائية والأورالية والهندوأوروبية

تشكل اللغات النوستراسية كما ذكرنا حوالي 90% من اللغات الحية في عصرنا هذا , ويبلغ عدد الناطقين بها الآن أكثر من خمسة مليارات نسمة . الأمر الذي يوضح لنا الأثر الثقافي المرعب الذي تستطيع جماعة صغيرة من الصيادين الرحل عاشت قبل أربعة عشر ألف عام من الآن أن تتركه على وجه التاريخ .

                                                              
(1) فكانت بذلك كل تلك اللغات إذا منحدرة من لغة أصلية واحدة قديمة تكلم بها في سالف الزمن شعب أصلي واحد قديم هو الشعب السامي الأول , والذي كان السلف المؤسس لكل تلك اللغات وكل تلك الأقوام
(2) نجد من الأسر الأخرى أسرة اللغات القوقازية الشمالية , وأسرة اللغات الصينية التيبتية , وأسرة اللغات الأوسترينيزية في جنوب شرق آسيا , بالإضافة إلى العديد من الأسر اللغوية الصغرى الساكنة ضمن الأمريكتين والشطر الجنوبي من القارة الأفريقية . ويضاف إلى ما سبق مصطلح اللغات المعزولة الذي يشير إلى اللغات التي لا ترتبط بسواها بأي صلة قرابة , كالسومرية والعيلامية والباسكية وغيرها
(3) والمرجح هو أن مثل هذا الدليل اللغوي لن يظهر أبدا بالنظر إلى الفترة الزمنية القديمة جدا التي عاشت فيها اللغة النوستراسية الأولى , إذ تعجز وسائل علم اللغات المقارن الحالية عن سبر مثل هذه الفترة القديمة جدا بشكل مؤكد

الأحد، 10 مايو 2015

بقايا الأسطورة الشعبية السورية في الأدب التوراتي

ربما كان من أقسى الضربات التي تعرضت لها ثقافة الشرق هي اندثار معظم الآداب والعلوم والمعارف السورية والرافدية بعد دمار الممالك القديمة واستيلاء الفرس والإغريق على المنطقة لقرون طويلة , مما كفل زوال معظم التراث الأدبي لسكان المنطقة بشقيه الشفهي والمكتوب . ربما حد من قدرة الكتاب على نقل تراثهم للأجيال القادمة طريقة التدوين المعتمدة على الرقم الطينية المنقوشة , وربما دونت الآداب حقا ذات مرة على الجلود والأقمشة وأوراق البردي المستوردة من مصر , لكنها ضاعت بعدها أو أتلفت عمدا مع الزمن . ربما كانت المكتبات الفينيقية والبابلية والآشورية ذات يوم غير مقتصرة على رقم الفخار بل شاملة للمخطوطات والكتب كما نعرفها الآن , لكن حوادث النهب والتدمير والحرق لم تبق من هذه المكتبات إلا على ألواح الطين المحترق .
بكل حال , كانت النتيجة هي ما نراه اليوم من زوال شبه كامل للأدب السوري القديم بالمقارنة مع الآداب المصرية أو الإغريقية أو الرومانية . وإذا كانت الآداب والنصوص الدينية الرسمية السورية التي وصلتنا نادرة وقليلة ومبعثرة , فإن الآدب الشعبية السورية والأساطير الشعبية شبه مفقودة , مع وجود استثناء واحد لذلك هو ما يقدمه لنا الأدب التوراتي من إنارات لبعض جوانب الحكاية الشعبية السورية .
من بين الاستعارات العديدة التي نلحظها بين الديانات السورية القديمة والدين اليهودي نجد قصة خلق الإنسان من طين , جنة عدن , الطوفان , برج بابل , خلق العالم من الشواش الأولي وطبيعة عالم الموتى السفلي حيث لا ثواب ولا عقاب . إلى جانب هذه السمات التي نراها في الدين اليهودي أول نشأته والتي تعود بأصولها إلى الأديان السورية الأقدم , نجد قصصا مروية في التوراة لا أصول لها في الدين الرسمي السوري , مما يفترض أن أصولها تمتد في الحكايات الدينية الشعبية التي تداولها السوريون زمن نشأة اليهودية والتي لم تدون في السجلات الرسمية أو في مكتبات الدولة . من هذه القصص نجد قصة أبناء نوح الثلاثة , سام وحام ويافث .
يصف العهد القديم توزعا عرقيا وقوميا لشعوب العالم القديم , فيجعل الأفارقة من سلالة حام ابن نوح , والأوروبيين وشعوب القوقاز ووسط آسيا من سلالة يافث , أما سلالة سام فيجعل موطنها ومستقرها في أرض الهلال الخصيب . يلاحظ هنا أن الشعوب السامية بالمعنى التوراتي مختلفة عن الشعوب السامية الحالية بالمعنى اللغوي إذ أن التوراة حين تتكلم عن ذرية سام تجعله جدا للعيلاميين ( في جنوب غرب إيران ) والآشوريين والبابليين والليديين ( في الأناضول ) والآراميين والعرب واليهود , هذه الشعوب المذكورة في التوراة كساميين لا ترتبط فيما بينها كما يعرف المختصون في التاريخ الآن بروابط لغوية أو سلالية حقيقية , فهي لغويا تتألف من عدة أسر لغوية مستقلة أو معزولة , وسلاليا نجد أن لكل منها أصلا جغرافيا مختلفا , فالليديون من آسيا الصغرى , والآشوريون من الرافدين والعرب ( حينها ) من شمال الحجاز , فما الذي جعل النص التوراتي يجمعهم جميعا تحت اسم واحد وسلف واحد هو " سام " ؟
هذا النص التوراتي الذي جمع الآشوريين والبابليين والأناضوليين والعيلاميين والعرب واليهود ولد أساسا من رحم التقليد الشفهي السوري الشعبي ليبين لنا واحدا من أقدم الأسماء التي أطلقت على أرض الهلال الخصيب وهو اسم " سام " . فالشعوب السابقة الذكر لا يجمع بينها سوى أنها جميعها عاشت على الأرض السورية , الرابط الوحيد بينها هو الرابط الجغرافي الذي جمعها وضم فيما بينها في الفكر الشعبي ليجعلها كلها من أصل واحد أسطوري مشترك هو الأصل السامي , فظهر الاسم سام حينها كاسم جغرافي قديم لسوريا تم تجسيده فيما بعد في شخصية أسطورية حملت الاسم نفسه , تماما كما جسد اسم بلاد كنعان القديم والذي ذكر مرات عديدة في الوثائق الرسمية المصرية والحثية والآشورية والإغريقية , جسد هذا الاسم في صورة سلف مشترك لكل الكنعانيين , والذين أصبحوا في النص التوراتي كنعانيين لأنهم يعودون بنسبهم إلى الجد كنعان , لا لأنهم يسكنون الأرض كنعان . نجد هذا التحويل لاسم الأرض أو البلد إلى اسم لسلف أسطوري قديم في أشخاص آشور وحثي ومصراييم وصيدون وغيرهم كثير , وهم كما تذكر التوراة أجداد الآشوريين والحثيين والمصريين وأهل صيدون الفينيقيين .
مما سبق , نجد أنه وبدلالة العهد القديم كان لفظ سام مرتبطا بالهلال الخصيب وبسكانه بمعنى جغرافي بحت قبل أن يشخص ويجسد , ربما كان الاسم الحالي شام يعود بأصله إلى ذلك الاسم الأقدم وربما لا , لكن النص التوراتي يوحي بذلك . هل كان النص التوراتي حين أشار إلى حام ( الأفريقي ) ويافث (الأوروبي) وحين ربطهم مع سام السوري من خلال الجد الأكبر نوح يحمل ذكريات عن الهجرات السورية الزاعية التي حصلت إلى جنوب أوروبا وشمال أفريقيا مع مطلع العصر الزراعي ؟ من الصعب الافتراض بأن السوريين كانوا حتى بدء ظهور الدين اليهودي حوالي الألف الأولى قبل الميلاد مايزالون يحملون ذكريات عن تلك الحقبة التي سبقت ذلك التاريخ بسبعة آلاف عام , لكن هذا الفرض يبقى ممكنا بشكل هزيل . ودراسة النص التوراتي أكثر ربما تظهر المزيد من وجوه الأسطورة الشعبية السورية في ذلك الزمن .

أصول النهضة الأوروبية

أرض مقفرة موحشة قليلة السكان غاصة بالاضطرابات و الحروب المدمرة , اقتصاد زراعي منهك محطم خاضع بجملته لنبلاء الإقطاع , بلاد استنزفت الحروب دماءها و حطمت ما لديها من قوة غزوات الجرمانيين وهجمات الاسكندينافيين الشماليين , طرق تجارية معدومة الأمان قليلة الحركة ينهبها كل من قطاع الطرق وجباة الضرائب , عدد لا يحصى من الدويلات و أشباه الدويلات المتناثرة داخل حدود كل مملكة لتزاحم ملكها صاحب التاج في نفوذه وسلطته , شعب غارق في الجهل والأمية وخاضع في أفكاره خضوعا تاما للقيود الدينية والخرافات وأساطير الجن والشياطين , كنيسة زمنية مسيطرة على فئات الشعب ومالكة لثلث أراضي القارة الأوروبية , أديرة ونظم رهبنة فقدت منذ زمن طويل إخلاصها ونقاءها وانغمست في الملذات والمفاسد والإثراء الجشع , ملوك مستبدون وعلم مضمحل وخرافة سائدة ودين صارم وشعب ضعيف جاهل منكسر خانع , تلك كانت حالة أوروبا في العصور الوسطى .
لقد أنهى الهجوم الجرماني المنقض على البلاد الجنوبية الأكثر مدنية والأغزر حضارة فترة السلام الروماني التي سادت القارة لأمد طويل , فغرقت الأقاليم الأوروبية ابتداءا من القرن الرابع الميلادي في حمأة الوهن والضعف والفوضى التي لا خلاص منها . وجعل غياب السلطة المركزية بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية وانحسار نفوذ بيزنطة عن أرجاء القارة وغزوات شعوب الفايكنج الوثنية وغاراتهم على سواحل القارة , جعل كل ذلك من البلاد الأوروبية بؤرة للضياع وفريسة للضعف العسكري والتقهقر السياسي . ويضاف إلى ما سبق انتشار الديانة المسيحية في الفترة القصيرة التي سبقت غزوات الجرمان , إذ عملت الديانة الجديدة على إرساء مبادئ المحبة والتسامح والروح السلمية بدلا من أخلاق الرجولة الحربية الرومانية التي كانت سائدة من قبل , وهذا بدوره ساهم في إضعاف نفوس الأوروبيين وصرفهم عن حياة الحرب والكفاح إلى الأديرة وحياة الرهبنة , ولولا مجيء الجرمانيين حينها وضخهم في العروق الأوروبية بعضا من دمائهم الحارة وأخلاقهم الحربية لفقد ذلك الشعب الواهن إرادة الحياة . كذلك , أدى انعدام الأمن إلى تعطل التجارة وخراب الصناعة وأجبر الاقتصاد على التراجع إلى نمط الحياة الزراعي الصرف . ولأن الشعب الزراعي كان على الدوام خاضعا بطبيعته للدين و للسلطة الغيبية بحكم ارتباط حياته بالأمطار التي تغزر أو تشح تبعا لسلطة آلهة السماء , فقد أدى التحول السابق نحو الزراعة إلى ازدياد التقوى والإخلاص وإلى تحلي السكان بالمزيد من الحماس للكنيسة الكاثوليكية ولممثليها في البلاد الأوروبية . ولأن نظم الاقتصاد الزراعي صارت هي السائدة فقد صار من الطبيعي أن يقيم الأمراء والإقطاعيون الجدد قصورهم في الأرياف و الضياع وسط أراضيهم و أملاكهم , مما أدى إلى اضمحلال المدن وتراجعها ففقدت دورها الاقتصادي الذي انسحب منها وتوجه إلى الريف . ولما كانت الحضارة والمدينة متلازمتان على الدوام نظرا لما تقدمه الأخيرة من تنوع في الأفكار وتنوع في الحرف وحركة تجارية دائبة تجمع البشر من كل البلدان , فقد اضمحلت الحضارة نتيجة لاضمحلال دور المدينة واضمحلت معها الثقافة والعلوم والفنون والآداب , وأضحت العلوم مركزة بأيدي رجال الدين الذين خزنوها في بطون الكنائس و الأديرة . ولأن تراجع التجارة أدى إلى جعل الورق سلعة غالية الثمن لا سبيل لإيجادها فقد ارتفعت تكاليف النسخ والتأليف وأصبحت باهظة لا يطيقها إلا ذوي اليسار من النبلاء ورجال الكنيسة , وهذا بدوره أدى إلى انهيار حركة التأليف والترجمة والإبداع والنسخ . وبنتيجة هذا كله فقد بدت حالة التخلف والضعف التي غرقت فيها أوروبا مستعصية على أي قوة تسعى لحلها . علوم متهالكة وشعب فقد أخلاقه وروح دينه وإن تشبث بتعصبه وبعقائده , وملوك طغاة مستبدون حكموا البشر "بالحق الإلهي" ورجال دين فاسدون مترفون نبذوا العقل والعلم وعدوهما نتاج الخطيئة , تلك حال أوروبا في عصورها المظلمة , فأي قوة مهما كانت قادرة على انتشالها من مستنقع القذارة والهمجية والتخلف ذاك .

 
في يوم الثلاثاء الموافق للسابع و العشرين من شهر تشرين الثاني عام 1095م , ألقى قداسة البابا أوربانوس الثاني في مدينة كليرمونت بجنوبي فرنسا خطبة نارية حث فيها المؤمنين على مهاجمة المشرق العربي لاستعادة أورشليم وتطهيرها من "الكفار" . ومنذ ذلك الحين توالت الحملات الصليبية واستمرت منهالة من الغرب طوال قرنين دمويين من الزمن , تدفقت فيهما الجيوش الأوروبية إلى مدن فلسطين والساحل السوري حاملة معها بربرية الجرمان الوحشية وهمجيتهم التي خربت في القديم حضارة الرومان ودمرتها . وبالرغم من الدماء التي سفكت وبالرغم من الأرواح التي أهدرت فقد كانت هذه الحملات الصليبية هي الشرارة الأولى التي فجرت النهضة في قلب أوروبا , ولم تغط هزيمة الأوروبيين فيها على الدور الحضاري الكبير الذي لعبته في نقل معارف الشرق وسلعه إلى أوروبا , وإن كانت هذه الحروب هي السبب في اضمحلال الحضارة وتراجعها عند دول المسلمين التي استنزفت برغم انتصارها وخسرت ما لديها من شباب و حيوية , فقد كانت هي أيضا اليد التي حملت بذور تلك الحضارة لتنثرها على الجانب الآخر من المتوسط , وبهذه اليد دق أول إسفين في تابوت العصر الأوروبي المظلم . 


فنشوء الإمارات اللاتينية المشرقية جعل من خطوط التجارة إلى أوروبا أقصر وأسهل , مثلما جعلها بيد التجار من مدن إيطاليا (فينيسيا وجنوا و بيزا وغيرها ) , لتنتقل بذلك عائداتها من جيوب التجار العرب إلى جيوب التجار الإيطاليين ولتتعزز بالنتيجة مكانة المدينة ويبدأ نموها وارتفاع مكانتها على حساب الريف , فمهدت الحروب الصليبية بذلك لإنهاء النظام الإقطاعي ولإقامة النظام البرجوازي المدني على أنقاضه . كذلك , فإن علوم اليونان و آدابهم وآراؤهم الفلسفية انتقلت عبر هذا الطريق الصليبي إلى أوروبا , وكان في مقدمة تلك العلوم والآراء فلسفة أرسطو التي اعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية من فورها بعد أن أضفى عليها القديس توما الأكويني الصبغة المسيحية ليقيم عليها أسس الفلسفة المدرسية . ومع الفلسفة اليونانية تسربت الآداب والفنون العربية أيضا إلى الأوروبيين الصليبيين , وإن كان الطريق الأندلسي أشد غزارة من الطريق الفلسطيني بالنسبة إلى هذه الناحية . إذ انتقل من الأندلس فن الموشحات وتدفقت الأشعار العربية الرقيقة إلى فرنسا وبخاصة إلى إقليم بروفانس الجنوبي فيها , ليقوم على أساساتها شعر التروباديين الجوالين الذي غير طباع الأوروبيين وصرف أذهانهم قليلا عن عالم الحرب الموحش إلى دنيا الرقة والحب والغراميات . فإن عدنا إلى الحروب الصليبية لوجدنا أن آثارها لم تقتصر على مجالي الاقتصاد والفن , بل تعدتها إلى مجالات أوسع و أخطر , إذ أن الهزيمة التي لقيها الأوروبيون بذرت في نفوسهم الشك بصحة معتقداتهم وبدأت بإسدال الستار على عصر الإيمان لينتهي عهد الخضوع المطلق للكنيسة . فالأوروبيون المؤمنون الذين توقعوا نصرة الرب لهم في حربهم المقدسة صدموا صدمة قاسية لهزيمتهم المريرة وتزعزعت أساسات الدين في نفوسهم , ونشأت نتيجة لذلك هرطقات عديدة وفدت إلى القارة من بلاد الشرق الإسلامي , مثلما ظهر نتيجة لذلك جيل من الملوك قليلي الإيمان الذين واجهوا البابوية وسخروا منها وناصبوها العداء . فالملك الفرنسي فيليب الثاني أغسطس نازع البابا لمعارضته حكم الطلاق الذي أجراه فيليب على زوجته , ووصل الأمر بالملك الغاضب إلى التهديد باعتناق الإسلام , وملك ألمانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة فريدريك الثاني حامي حمى الكاثوليكية (نظريا) وصل استخفافه بالدين ولامبالاته بالأوامر البابوية حدا أدى إلى ذيوع الشائعات التي تتهمه بالإلحاد , واتهمه أعداؤه بكونه منتميا إلى دين محمد أكثر منه منتميا إلى دين المسيح , إلا أن هذه التهمة كانت في نظر العامة سخيفة غير مقنعة , فالمقنع في نظرهم كانت أقواله التي نقلت عنه بأن "ثلاثة من المشعوذين ساقوا بدهائهم أهل زمانهم ليسودوا بهم العالم , موسى ويسوع ومحمد ." وأدت هذه الوقاحة الملكية إلى قيام عدة حروب بين البابوية و الإمبراطور , وإذ أحس القصر البابوي بتململ الملوك من سلطته فقد عمل على تدعيمها بتأسيس محاكم التفتيش وشن الحروب محاولا المكابرة ونفي الضعف والشيخوخة عنه . فكانت الحرب الصليبية هذه المرة داخل أوروبا , إذ شنت الكنيسة حربا على طائفة الكاثاريين التي تفشت في جنوب فرنسا , وانتصرت الكنيسة هذه المرة , لكنها حفرت بذلك قبرها بيدها إذ أشعلت بتلك الحرب غضبة الملوك القومية , وعملت على إضعاف رابط الدين أمام الرابط القومي . فحين غزا نبلاء الشمال الفرنسيون مدن الجنوب وقف كاثوليك الجنوب أمام خيارين , نصرة الكاثوليك أخوتهم في الدين , أو نصرة الكاثاريين أخوانهم في الدم , واختاروا الاحتمال الثاني فهزموا وذبحوا , لكن البابوية دفعت بعد ذلك ثمن سخريتها واستهزائها بالسيادة القومية , إذ لم تكد تمض فترة قصيرة من الزمن حتى كانت البابوية قد انتزعت من روما وسجنت لقرن من الزمان في مدينة آفينيون الفرنسية تحت عين الملك الفرنسي فيما سمي بفترة الأسر البابوي .  
ولذا فقد كانت النتيجة فقدان أوروبا روحها الدينية التي ربطتها بالسماء وكانت عزاءها و سلواها لقرون , ووقفت الكنيسة آنذاك عاجزة تضرب معارضيها وتضطهدهم وتصدر أحكام الحرق وتلاحق الهرطقة , لكن ضرباتها كانت تنبه الناس أكثر إلى مدى خنوعهم لسلطة التدين السطحي الزائف الذي يكبل عقولهم ويطوقها بسلاسله . وحين أعدم المصلح الديني البوهيمي ويكلف هس اشتعل أتباعه بالغضب وواصلوا نشر آرائهم الدينية المناهضة للطغيان البابوي , كما فجروا ثورة قومية في بلاد التشيك ضد البابوية والقوى الموالية لها , وتلقف مارتن لوثر بعد قرن من الزمان راية النضال ضد البابا وقاد حركة الإصلاح الديني مؤسسا المذهب البروتستانتي الذي فشا في العالم المسيحي بعد موته شيئا فشيئا وأصبح المذهب الرسمي للعديد من الدول . وفيما انتشر في بعض بلدان القارة هذا المذهب الداعي إلى نبذ المؤسسة الكنسية كرابط للمؤمنين بالله , بقيت بعض الدول على ولائها للكنيسة الكاثوليكية (فرنسا – اسبانيا – البرتغال – النمسا ) وإن كان ولاءها هذا اسميا لا يساوي شيئا عند تضارب المصلحة الكنسية مع المصلحة الملكية . وفي النصف الأول من القرن السابع عشر وبعد عهود من الشحن الطائفي والديني بين المذهبين البروتستنتي الجديد والكاثوليكي القديم نشبت حرب الأعوام الثلاثين بين البروتستانت و الكاثوليك في أوروبا , وكانت نتيجتها التخفيف من حدة التعصب الديني و المذهبي بعد أن أدرك الطرفان المتحاربان الثمن الباهظ له . وبعد قرن آخر من الزمان كانت قد اختمرت حركة التنوير التي أعلت من شأن العقل على حساب الخرافة , وإذ عجز رجال الدين في زمن سطوتهم عن فصل الدين عن الخرافة فقد دفعوا الثمن الآن حينما نبذت الخرافة و الدين سوية أمام موجة التنوير المتحمسة . ووصل عصر التنوير إلى ذروته زمن الفرنسيين فولتير وروسو , فبينما قاد الأول الحركة الكلاسيكية ( العقلية ) التي دعت إلى فصل اللاهوت عن الأخلاق الدينية قاد الثاني الحركة الرومانتيكية ( التي غلبت الفطرة على العقل ) ودعا إلى العودة بالإنسان إلى عصوره الذهبية البريئة الخالية من مفاهيم الملكية أو المدنية , مدللا على تفوق الإنسان الطبيعي البدائي على الإنسان المثقف المتحضر من الناحيتين الأخلاقية و الوجدانية . ومن فكر هذين الاثنين ولدت الثورة الفرنسية عام 1789م التي ألغت الدين وعبدت إلهة العقل الفرنسية ماريان , فدمرت بذلك أخيرا سيطرة الدين على العقل و الفكر الأوروبيين .
لقد كان لزوال السيطرة الدينية على الفكر تأثير كبير على الفلسفة الأوروبية , التي كانت حتى ذلك الحين مدرسية كنسية خالية من الإبداع الذي هو الحافز الحقيقي للفكر . فظهر جيل جديد من الفلاسفة العظام حلقوا خارج المجال الذي اختطه أرسطو قبل ثمانية عشر قرنا , وظهرت في إنكلترا فلسفة بيكون العلمية التي حملت إلى العلم الطريقة الاستقرائية  ليعمل بها باحثي أوروبا في القرون المقبلة , فمهدت تلك الفلسفة مهدت الطريق للفلسفة المادية ولعلم النفس التجريبي الحديث . كذلك قدم بيكون من جديد صورة للمدينة الفاضلة كما تخيلها فكانت هذه المرة مدينة يحكمها العلماء والحكماء لا رجال السياسة المنافقون ولا أصحاب رؤوس الأموال الجشعون , والحرب في تلك المدينة كانت حربا على الطبيعة لا على الإنسان إذ أن رجال الحكم كانوا يهتمون بمد نفوذ العلم والإنسان على الطبيعة والسعي لتعليل ظواهرها وتسخيرها لخدمة الجنس البشري بكامله , وهذا التصور للمدينة الفاضلة كان تعبيرا عن نشوة أوروبا بعلومها وثقتها بالعقل دليلا لها ومرشدا . وجاء من بعد بيكون الفرنسي ديكارت صاحب المقولة الشهيرة " أنا أفكر إذا أنا موجود " , ومن بعدهما ظهر أعظم يهود العصور الحديثة بلا منازع , الفيلسوف الهولندي ذو الأصل البرتغالي باروخ سبينوزا الذي وضع فلسفة وحدة الوجود وعد الخالق والعالم المادي شيئا واحدا , أو عد العالم المادي جسدا لله الروحي , ولم يعني بذلك إلا أن الله هو " الطبيعة " . وليست الطبيعة التي قصدها هي هذا الجماد المحيط بنا , بل هي الجوهر الحقيقي للعالم والقانون الذي يسير بموجبه  , فكما أن قانون الدائرة هو جوهرها , فكذلك الله هو جوهر العالم المخلوق . وبسبب فلسفته هذه طرد سبينوزا من الكنيس ومن مجتمعه اليهودي الذي ارتاع لهول أفكاره " المخربة " , وصبت عليه لعنة من أبشع اللعنات التي دونها التاريخ . وقد آمنت فلسفة سبينوزا بالجبرية وفضلت على الحكمين الملكي الاستبدادي الذي يخضع الملايين لإرادة الواحد , والديمقراطي السخيف الذي يلقي تبعة الحكم على العامة و الرعاع , فضلت على هذين الحكمين الحكم الأرستقراطي أي حكم النخبة . والأرستقراطية هنا لا تعني أولئك النبلاء المترفين الذين كسبوا مجدهم لشرف مولدهم فحسب بل تعني النخبة العلمية في البلاد من المثقفين وأصحاب الكفاءات الحقيقية والروح العملية الجادة . إن سبينوزا كمعظم الفلاسفة لا يثق بالجماهير , ويرى أن من السهل خداعها واللعب على أوتار عواطفها من قبل خطيب مفوه أو سياسي منافق , ومن سوء الحظ أن سبينوزا مات قبل أن ينهي رسالته في السياسة وإلا لكان قد قدم أفكارا ثمينة حقا في الحكم والسلطة . ومن بعد وفاته آلت السيادة على العقل الأوروبي إلى فولتير الذي يعد من أعظم من أنجبتهم أرض فرنسا , إذ كان فولتير في حياته الصوت الناطق باسم التنوير وسيادة العقل , وشارك في وضع الموسوعة الفلسفية وعمل على توعية الجماهير وفتح عيونهم على واقعهم المرير من جهل وتعصب وفقر وخضوع للاستبداد , وألف في حياته أجمل الأعمال المسرحية , وكان السيد الأعظم في ميدان الهجاء الساخر إذ لم يفقه أحد في هذا المجال . وأسهمت أعماله الأدبية الساخرة في كل فلسفة , فكانت كنديد سخرية من مذهب التفاؤل الذي جاء به الفرنسي لايبنتز الذي زعم أن عالمنا هو الحالة الفضلى للوجود , وكان كتابه دكتور أكاكيا سخرية من عدوه الرياضي الفرنسي ميبيرتويس , وفي قصته لانجينو أظهر الاختلاف القائم بين مسيحية عصره وبين المسيحية البدائية وندد باللاهوت الذي صنعه رجال الدين الذي كرههم طوال عمره وكرهوه , وفي السنين الأخيرة من حياته بدأ أعظم إنتاج له تحت شعار اسحقوا العار , إذ نشر المقالات القصيرة و الرسائل كالجنود لتهاجم الكهنوت وتضرب أركان اللاهوت بقوة , وكان السبب لرسائله هذه حملة من التعصب في جنوب فرنسا قام بها الكاثوليك ضد الأقلية البروتستانتية , وبهذا بدأت حربه ضد الكنيسة التي قدر له في نهايتها أن ينتصر بقوة مهدت السبيل للثورة الفرنسية , ولما مات في الرابعة و الثمانين من عمره كانت فرنسا و أوروبا كله تجله وتعظمه كما لم يحدث قبلها أو بعدها لإنسان قط , لقد اعتبره الفرنسيون عند وفاته إلها , دون أدنى مغالاة في وصف شعورهم , ومن بعده , كان عمانوئيل كانت الألماني فيلسوف أوروبا , الذي حسم المناقشات الميتافيزيقية بكتابه نقد العقل الخالص الذي يعد من أهم الأعمال الفلسفية , وأظهر في هذا الكتاب استحالة البرهنة على أشياء كوجود الله أو خلود الروح , فمن الأفضل في هذه الحالة التسليم بها نظرا لوجود دافع وجداني هو أشد عمقا من العقل يقبلها كحقيقة , وللدور الكبير لهذه الأفكار في صيانة أخلاق الجماهير وحفظ نظامهم , هذه فكرة مبسطة تافهة عن ذلك الكتاب الذي يعد من أعقد و أعظم ما كتب في الفلسفة , والشاهد على ذلك أن الفلسفة الميتافيزيقية التي عنت بالأمور الغيبية تلاشت من بعده , لتخلي الطريق لأنماط جديدة من الفلسفات النفسية و الاجتماعية .
 في القرن الرابع عشر في ربوع إيطاليا نشأت الحركة التي قدر لها أن توقظ الفن و الأدب والعلوم الوثنية القديمة لتهز بها أوروبا المسيحية , وحمل لواء هذه الحركة أوروبيون متحمسون للعلم شغوفون بالأدب سموا بالإنسانيين . فبعد انتقال الفلسفة الإغريقية إلى مدارس الفكر الأوروبي عن طريق الفلاسفة العرب تلهف الأوروبيون للإطلاع على الآداب والعلوم التي تمخضت عنها تلك الفلسفة . وإذ لم يبذل العلماء العرب جهودا لترجمة الأدب اليوناني نظرا لما فيه من وثنية صريحة وضروب من الحب الفاحش , فقد كان على الأوروبيين القيام بذلك بأنفسهم . ومن أجل ذلك بدأ هؤلاء الإنسانيون تنقيبهم عن الكتب والمخطوطات الثمينة في بطون الأديرة ومكتبات الكنائس والكاتدرائيات حيث حفظ الكهنة والرهبان علومهم القيمة , وعثر على أعداد كبيرة من النصوص الهامة , وتعرف الأوروبيون على أسلوب جديد ولغة أدبية مختلفة عما عرفوه وألفوه , وساعد على ذلك أفواج العلماء اليونان التي تدفقت على إيطاليا هربا من المد التركي الذي كان يلتهم أملاك البيزنطيين إذ حمل هؤلاء معهم معارفهم وعلومهم وكتبهم اليونانية القديمة التي لا تقدر بثمن . حتى إذا جرت المباحثات بين الكنيستين الشرقية و الغربية سعيا إلى لم شملهما من جديد في كنيسة واحدة ازدادت أعداد العلماء اليونانيين الذين انتقلوا إلى إيطاليا , ووصلت أعداد هؤلاء إلى ذروتها بعد سقوط القسطنطينية إذ هاجر معظم علمائها إلى المدن الإيطالية حاملين معهم المعارف و الكتب التي فجرت النهضة العلمية . وازداد فخر الإنسانيين باللغة اللاتينية التي سادت روما القديمة فاختاروا لأنفسهم أسماء لاتينية وأدخلوا اللغة اللاتينية على بعض المصطلحات الدينية , وازدروا اللغة العامية الإيطالية وعدوها لغة للأدب الرخيص العامي , لكنهم صدموا بشاب يخرج من وسط صفوفهم ليكتب بها وليرفعها إلى مقام اللغة القومية الملائمة للشعر الحقيقي , إذ نهض في ذلك الوقت الشاعر الإيطالي دانتي ألجييري فألف ملهاته الإلهية . وإذ كان موضوع الملهاة دينيا فلسفيا ينتمي إلى فكر العصور الوسطى , فقد كانت لغتها ثورية تماما , فقد كتبت باللغة الإيطالية لا باللغة اللاتينية التي كانت قبل ذلك لغة الأدب , وحذا حذو دانتي من بعده شعراء آخرون عمدوا إلى استخدام اللغة الإيطالية التي كانت تعتبر ككل اللغات القومية الأوروبية لهجة عامية سوقية لا تليق بحفظ الآثار العظيمة , من هؤلاء الشعراء كان بترارك , بوكاشيو , وآخرون غيرهم , ولم يقتصر الأثر الإنساني على الأدب وحده , بل تعداه إلى العلوم الطبيعية والتاريخ , فتلاشى أسلوب الكتابة العلمية القديم الذي كان زاخرا بالأساطير والمعلومات الغير مدققة والفوضى في الأسلوب والشرح , وحل محله أسلوب جديد قائم على التجربة والنقد والفحص الدقيق والترتيب المتسلسل للفكر و المواضيع , فتأسس بذلك الأسلوب العلمي الحديث في البحث والتأليف .
وبعيدا عن المجالين الديني و العلمي , كانت النهضة تعمل على تغيير الجانب الاقتصادي , فصعود الطبقة الجديدة من التجار البرجوازيين أنعشت الحركة المالية في المدن والمرافئ مما أدى إلى ازدهار حركة التصدير و الاستيراد , وتضاعفت أعداد المصارف بسرعة كبيرة لتمد هؤلاء التجار بالقروض والأموال الغزيرة التي استودعها فيها المغامرون من النبلاء و الأثرياء , فازدادت كميات النقد المنصبة على الميدان التجاري وانتقلت السيادة الاقتصادية من الزراعة إلى التجارة , وبحكم موقعها كانت المدن الإيطالية رائدة هذه النهضة التجارية ساعدها على ذلك أساطيلها البحرية وقربها من الموانئ والمرافئ الشرقية وسيطرتها على عدد كبير من المستعمرات و الجزر في اليونان وبحر إيجة , فلما بدأ عهد الكشوف الجغرافية انتقلت السيادة الاقتصادية إلى الدول الأطلنطية كاسبانيا و البرتغال ومن بعدهما بريطانيا وفرنسا , وتدفقت سيول الذهب إلى أوروبا من الجانب الآخر للمحيط ونشأت خطوط الملاحة الغزيرة بين الممالك الأوروبية ومستعمراتها الأمريكية , وانطلقت أفواج المغامرين الباحثين عن الثروة والمضطهدين الدينيين الفارين بمعتقداتهم إلى الأرض الجديدة التي كانت ثرواتها ما تزال عذراء لم تستغل بعد , ومن هذه الأفواج المتباينة الأجناس سينشأ بعد عدة قرون شعب أمريكا الشمالية الأبيض , أما شعب أمريكا الجنوبية والوسطى , فقد كان بمعظمه مكونا من البرتغاليين في البرازيل و الأسبان في بقية القارة إلى جانب أعداد من السكان الأصليين , وازداد الازدهار التجاري بالتفاف فاسكو دو غاما حول رأس الرجاء الصالح ووصوله إلى الهند حيث أوجد طريقا بحريا موصلا إلى الهند مباشرة , فوفر ذلك على البرتغال الضرائب الباهظة التي كانت تدفعها تجارتها للوسطاء العرب و الإيطاليين , واختصرت الطريق التجارية التي كانت قبلا تمر بأوروبا كلها قبل الوصول إلى البرتغال , ولم تكد تمضي فترة من الزمن , حتى كانت الهند وجزر المحيط الهندي والسواحل العربية العماني قد سقطت بيد الأوروبيين الذين وصلوا أيضا إلى الصين و اليابان على شكل بعثات تبشيرية هدفت إلى هداية تلك الشعوب إلى الدين المسيحي وإلى نشر الثقافة الأوروبية الجديدة في أوساطهم .
أما السيادة القومية , فكان تعزيزها إحدى نتائج الحروب الصليبية الداخلية إذ قوت الرابطة العرقية على حساب الرابطة الدينية . كذلك كانت الحروب الأوروبية داعما آخرا للسيادة القومية فالمدفع العظيم الذي زلزل القسطنطينية وهدم أسوارها انتقل إلى الممالك الأوروبية جميعها ليهدم الحصون الإقطاعية ويفرض النفوذ الملكي على جميع أنحاء البلاد , فتحول الأمراء الإقطاعيون إلى نبلاء , وانسحبوا من قلاعهم وقصورهم الريفية ليحلوا على القصور الملكية حاشية للحاكم , وإذ كان النفوذ البابوي الديني قد انعدم عمليا على الممالك المتمردة , وكانت سلطة الأمراء والنبلاء قد أضحت ماضيا وحلما , فقد مهد هذا لقيام الملكية المطلقة التي لاتحد سلطانها أي قوة , وظهرت تباشير هذه الملكية في تعيين الملك البريطاني هنري الثامن نفسه رئيسا للكنيسة الإنكليزية , ووصلت إلى ذروتها في القول المشهور لملك فرنسا لويس الرابع عشر : أنا الدولة . إلا أن هذا الاستبداد والحكم المطلق لم يلبث أن فجر النقمة والسخط الشعبيين , فشنق البريطانيون ملكهم و استوردوا من هولندا وألمانيا ملوكا لهم , وفجر الفرنسيون ثورتهم على الملكية وأحالوا الحكم إلى الشعب , إلا أن الخضوع للاستبداد كان على ما يبدو جاريا في عروقهم , فبعد خمسة أعوام من قيامهم بالثورة نصبوا  نابليون بونابرت إمبراطورا عليهم ليغرق أوروبا في دمائها طوال عقدين من الزمن .
أخيرا كان هناك الفن , كان الفن السائد في شمال أوروبا غوطيا , وفي جنوبها الإيطالي بيزنطيا , وكانت مواضيعه على الأغلب دينية تمثل مقاطعا من الإنجيل والعهد القديم ولقطات من حياة القديسين , فلما جاءت النهضة وانبعثت آداب اليونان من جديد , اتخذت المواضيع الوثنية سبيلها إلى الفن الإيطالي , وظهرت صور الربات والأرباب الإغريق عارية واقعية , واستبدلت بلوحات الأبطال الإغريق وصور الملاحم القديمة والربات اللواتي ينضحن بالأنوثة والأرباب المفعمين رجولة لوحات الولادة والعماد والعشاء الرباني والصلب والصعود , وكان أهم مميزات الفن في هذا العصر تفضيله الجمال على الحقيقة , وحظي الفنانون بدعم البابوات و النبلاء الإيطاليين , وإذ تجمعت أموال أوروبا طوال قرون في الخزينة البابوية , فقد خرجت الآن منهما مجددا لتدعم الفنانين والمثالين الموهوبين , وتزينت أروقة الفاتيكان وقصور روما و إيطاليا بالروائع الفنية , وضرب البابوات صفحا عن اللوحات الشهوانية السافرة التي تعج بالعري الوثني مقابل بعض اللوحات و الأعمال الدينية التي أدهشت العالم الأوروبي بعظمتها , كتمثال موسى والعذراء المنتحبة والعشاء الأخير وغيرها من الروائع , وفي الشمال الجرماني ظهر الفن الفلمنكي الذي فضل تصوير الحياة الشعبية على تصوير الآلهة , وقدم للفن الأوروبي بدوره أعمالا دينية قيمة كمعجزة القديس أنطوان كما قدم له لأول مرة الألوان الزيتية , أوروبا الآن في القرن السادس عشر مفعمة بالحيوية والحياة , ومستقبل مثير ينتظرها في القرون الخمسة القادمة .

أصول الأبجدية الفينيقية في علم الفلك

من المعروف أن الفينيقيين هم من اخترع الأبجدية وعلمها لباقي شعوب العالم , ومن حروف أبجديتهم اشتقت الحروف الكتابية لباقي اللغات بدءا من اليونانية واللاتينية في الغرب إلى الآرامية والعبرية والعربية في الشرق , لكن قليلا ما يذكر أحد مصدر أشكال الحروف الفينيقية .
في المعتقدات السورية القديمة كان للكلمة قدسية كبيرة , فهي مفهوم ديني وسحري معقد , لذا لم يقم الفينيقيون حين رسموا حروفهم الأولى باختيار أشكالها بشكل اعتباطي , بل اختاروا أشكالها من مجال سحري وديني آخر ذو قدسية لديهم , وهو علم الفلك , فكما اعتبروا النجوم تجسيدا لآلهتم , جعلوا من الحروف تجسيدا للنجوم .
رسم كل حرف فينيقي اعتمادا على مجموعة نجمية في أحد أبراج دائرة الفلك القديمة , فعلى سبيل المثال , حرف الألفا ( الألف ) الفينيقي القديم رسم على شكل مجموعة نجمية في برج الثور , وحرف البيت ( الباء ) رسم على شكل مجموعة نجمية في كوكبة أوريون , حرف الجامل ( جيم ) رسم على شكل مجموعة في برج الجوزاء , وهكذا . لتترتب أحرف الأبجدية حسب ورودها في دائرة البروج , ولتبقى أحرف الزين والحاء والطاء أحرفا زائدة دون نجوم ترتبط بها. أي أن الأحرف الأولى في التاريخ لم تكن رموزا كتابية فحسب , ولا انجازا علميا فحسب , بل كانت مزيجا علميا سحريا دينيا معتمدا على الدين السوري القديم , ولعل هذا الربط القديم بين الأحرف الكتابية والأبراج كان المصدر للتقاليد السحرية العبرية والفارسية والأوروبية في حساب الجمل والتنبؤ بمستقبل الإنسان اعتمادا على اسمه .

الموطن الأصلي للشعوب السامية , في ثقافة العمق في الغرب السوري لا في الجزيرة العربية

يطلق مصطلح اللغات السامية على مجموعة اللغات العربية والعبرية والآرامية والكنعانية والأشورية والبابلية والأمهرية وغيرها من لغات الشرق القديم التي تفرعت جميعها من لغة أصلية واحدة دعيت باللغة السامية الأم . على الرغم من الاعتقاد القديم بأن أصل الساميين كان في شبه الجزيرة العربية وبأن الهجرات السامية التي انتشرت في الشام وبلاد الرافدين خرجت من الصحراء العربية , إلا أن الدراسات الحديثة ترجح احتمال الأصل السوري للغات السامية .
من العوامل التي دفعت إلى التفكير بالأصل السوري للساميين حقيقة أن أقدم فرعين للغة السامية , وهما اللغتان الأكادية والكنعانية , انتشرتا في شمال الرافدين وغرب سوريا , في حين أن الفروع التي انتشرت جنوبا كالعربية والأمهرية لم تظهر إلا في فترة تاريخية متأخرة نسبيا . كذلك , فإن حقيقة الوجود القديم للكنعانيين في سوريا ينفي فرضية الهجرة السامية من الصحراء , فعلى عكس باقي المجموعات السامية التي غالبا ما ارتبط ظهور حضاراتها بهجرة عسكرية , كان وجود الكنعانيين في غرب سوريا قديما , أي أنهم كانوا السكان الأصليين لهذه المنطقة وسجلهم الأثري يبدي استمرارا واضحا يمتد من الثقافة الغسولية التي عاشت في الساحل السوري في بداية الألف الرابع قبل الميلاد وحتى ظهور ممالك المدن الكنعانية في الألف الثاني قبل الميلاد , مما ينفي فرضية كون الكنعانيين مهاجرين ساميين إلى سوريا , بل هم سكان أصليون ساميون في سوريا .
العامل الأخير الذي يشير إلى الأصل السوري للغات السامية هو اللغة السامية الأم نفسها . فبعد الانتهاء من إعادة تركيب اللغة السامية الأصلية انطلاقا من فروعها المختلفة تبين أنها تحوي العديد من المفردات الزراعية كأنواع المحاصيل وأدوات الزراعة والحيوانات المدجنة , مما يعني أن الساميين الأوائل كانوا شعبا زراعيا لا بدويا . كذلك , كان بين مفردات هذه اللغة كلمات تشير إلى الثلج والبحر والنهر والجبل , إضافة إلى أنواع من الأشجار كالبلوط والزيتون , دون أن تحوي مفردات تشير إلى الصحراء أو حيوانات الصحراء . هذا الدليل اللغوي يشير إلى أن الساميين الأوائل عاشوا في بيئة زراعية معتدلة , ووجود مفردات الجبل والبحر والنهر في لغتهم تجعل من الموطن الأصلي للساميين في شمال سوريا ممتدا بين نهري دجلة والفرات في الشرق والبحر الأبيض المتوسط في الغرب . إذا أخذنا هذه المعايير في الحسبان فإن بإمكاننا ربط الساميين الأوائل بثقافة وادي العمق التي عاشت في أقصى الشمال الغربي لسوريا والتي تعد السلف المباشر للثقافة الغسولية ومن بعدها الكنعانية . من هذه البقعة خرجت الهجرات السامية بعد اكتشاف النحاس وظهور الأسلحة المعدنية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد لتنتشر في الهلال الخصيب وشبه جزيرة العرب وصولا إلى شرق أفريقيا .

للمزيد :
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2839953/
https://en.wikipedia.org/wiki/History_of_the_Levant
https://en.wikipedia.org/wiki/Semitic_languages#cite_note-12
http://atil.pagesperso-orange.fr/atil/x9.htm

الصورة من سهل العمق الموطن المرجح للساميين الأوائل:


قصة الله...

كان يهوه إله العواصف الأدومي وطوال مدة الألفية الثانية قبل الميلاد مجرد إله كنعاني صغير الأهمية ضعيف الشهرة لسكان جنوب غرب سوريا من العشائر البدوية , وكانت عبادته في ذلك الحين محدودة في أقصى الجنوب الفلسطيني فحسب , ومحصورة ضمن قبائل الأدوميين ورعاتهم الساكنين في صحراء النقب , والذين عبدوا إلى جانب يهوه العديد من أشقائه الأكثر شهرة والأعظم شأنا في ذلك الزمان من الآلهة الكنعانية الكبرى , أمثال بعل وعناة وعشتاروت وسواهم .
كانت بداية نهوض عبادة يهوه مع حلول القرن التاسع قبل الميلاد , حين ظهرت موضة دينية جديدة في المناطق والممالك الكنعانية هي موضة الإله القومي , إذ صار حينها لكل شعب من شعوب الكنعانيين إلهه القومي الخاص , والذي كان حاميا للشعب وحافظا له وعونا له في حروبه ونزاعاته وأمور حياته المختلفة , فكانت تلك إذا هي البداية المتواضعة للتوحيد . إذ أفرد كل شعب من شعوب الكنعانيين عبادته لإله واحد لا شريك له هو الإله القومي الذي كان إلها مطلقا على كل شؤون ذلك الشعب , من دون أن تنكر تلك الشعوب وجود آلهة أخرى معبودة عند جيرانها . وبذلك فقد ارتقت حينها منزلة يهوه قليلا , وتطورت عبادته التي كانت قبل ذلك ثانوية وهامشية لتصير أكثر قوة وأعظم رسوخا في مجتمع الكنعانيين الجنوبي البدوي . ومثلما صار الإله القومي للمؤابيين (الساكنين في شرق البحر الميت) هو شمش , ومثلما صار الإله القومي للعمونيين (الساكنين في الأردن شمال مدينة عمان) هو مولوك , فكذلك صار يهوه هو الإله القومي لشعب الإسرائيليين العبرانيين , الذي أخذوا عبادته من جيرانهم الأدوميين الساكنين إلى الجنوب منهم ضمن صحراء النقب وعلى أطراف سيناء .
وفي نظر كل تلك الشعوب فقد كان الإله القومي الخاص بكل منها هو نفسه الإله الكنعاني الأكبر إيل , والذي كان يعد تقليديا وبنظر الكنعانيين الأوائل رب السماء ووالد الآلهة كلها وملكها وعظيمها . ويمكن لنا وإلى الآن أن نشاهد ملامح عبادة الإله إيل عند العبرانيين في أسماء شخصيات الأديان الإبراهيمية , وفي أسماء الملائكة التي حمل الكثير منها لفظة إيل , كإسرائيل وإسماعيل وجبرائيل وميكائيل وسواهم الكثير . ولما أن صار يهوه عند الإسرائيليين هو نفسه إيل فقد صار هو بالتالي ملك الآلهة وكبيرها ووالدها , ولذا فقد استمرت عبادة تلك الآلهة إلى جانبه لمرحلة قصيرة , كانت خلالها نظرة العبرانيين إليها على أنها أبناء الإله الأكبر يهوه وبناته , وذريته الخاضعة له والطائعة لأمره .
لكن ذلك لم يدم طويلا , إذ أن تعاظم الدور القومي ليهوه منذ القرن السابع قبل الميلاد أدى إلى منحه المزيد من الوحدانية وإفراده بالمزيد من العبادة والخضوع , فتراجعت بالنتيجة عبادة الآلهة الكنعانية التقليدية وانحسرت لحساب عبادة يهوه وعبادة زوجته عشيرة التي كانت زوجة إيل في الدين الكنعاني الأصلي , والتي ورد ذكرها في العهد القديم مرات عديدة وقامت تماثيلها في هيكل سليمان حتى القرن السادس قبل الميلاد وأشير إليها بلقب سيدة السماء على لسان النبي جرميا . ولم يطل الزمن حتى لحقت عشيرة ببقية الآلهة الكنعانية , تاركة زوجها وحيدا على عرش ربوبية مملكة إسرائيل نتيجة لضغط كهنة الهيكل , إذ كان الإسرائيليون في ذلك الزمان في حالة حرب مع الفينيقيين الذين كانوا شديدي التقديس لعشتار , ولأن عشيرة  عند الإسرائيليين كانت أحد وجوه عشتار الفينيقية فقد نبذها الكهنة وحاربوها بداعي المصلحة السياسية .
ما تلى ذلك كان مجرد تاريخ , إذ ظهر الأنبياء الإسرائيليون الذين حاربوا عودة عبادة الآلهة الكنعانية إلى إسرائيل , وكأن إلههم يهوه لم يكن كنعانيا ! مثلما ظهر نظراؤهم من الأنبياء القوميين في كل الممالك المجاورة , وإن كان أولئك بالطبع مبشرين بلإله القومي الخاص بكل منهم , كل حسب مملكته . ولأن مجريات التاريخ حكمت بأن تفنى كل تلك الشعوب الكنعانية المجاورة ويبقى شعب الإسرائيليين وحده حيا إلى زمن الاحتلال الروماني , فقد صادف أن تصير اليهودية (المشتقة من اسم يهوه) هي الدين الأول المنادي بالتوحيد , لا الشمشية (التي كانت دين المؤابيين) ولا المولوكية (التي كانت دين العمونيين) مثلا! ولما أن اختلطت باليهودية تأثيرات الدين الزرادشتي الآتي من بلاد فارس ومعها تأثيرات الفلسفة اليونانية وأديان البعث السورية والفينيقية فقد ولدت أخيرا الديانة المسيحية , ومن بعدها بعدة قرون كانت أيضا ولادة الإسلام .
اللوحة للفنان الإيطالي لودوفيغو مازولينو (1480-1528م) وتحمل العنوان: "الإله الآب"


سقوط الأنثى

ما هي الخطيئة الأصلية التي اقترفتها المرأة حتى سقطت من جنة عدن القديمة وخسرت ألوهيتها ومكانتها المجيدة ؟ ماهي الثمرة المحرمة التي جعلت حواء ملعونة بعد أن كانت قديسة , وجارية بعد أن كانت حاكمة ؟
كانت الإلهة الأنثى قديما رأس الديانة الشرقية, وراهباتها كن رأس الكهنوت وحاملات أسرار الخصوبة لسكان السهول الممتدة من دجلة إلى المتوسط , ومنزلة الأنثى في عين أسرتها وعين مدينتها كانت هي الأجل والأقدس , إذ كانت هي الأم التي تخلق وتلد , وبفعلها ذاك فقد كانت مماثلة للآلهة , ولذلك عدت الأولى دائما فنسبت الأسرة إليها بدلا من الذكر ونسب الأطفال إليها بدلا من الذكر, وتمحور الدين حولها بدلا من الذكر .
بدأ سقوط الربة الأنثى حين أدى نمو مدن الشرق القديم وتوسعها البشري والزراعي في بدايات الألف الثالث قبل الميلاد إلى وصول تلك المدن لمرحلة التماس السياسي والأقتصادي ومن ثم العسكري , فتضخمت الجيوش للدفاع والغزو , ومن ثم تهاوت أسوار المدن أمام كتائب الجيش الأقوى لتنتقل الحضارة مع أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد من مرحلة الدولة المدينة إلى مرحلة المملكة المركزية . أدى هذا الانتقال إلى عسكرة الدين والدولة , مثلما أدى إلى الهبوط التدريجي لمنزلة إلهة الخصوبة الأنثى مقابل صعود مكانة آلهة الحرب الذكور , مع تمجيد المجتمع والدولة لفضائل الذكورة والرجولة الحربية بدلا من فضائل الأنوثة والخصوبة الزراعية .
حل الأرباب المحاربون إذا محل إنانا وعشتار , وطبعوا المجتمع السوري الذي كان ذات مرة أموميا وزراعيا بالطابع الأبوي الذكوري العسكري , وعلى الرغم من بقاء عبادة الإلهة الأنثى موجودة وقوية طوال الألفيتين الثانية والأولى قبل الميلاد إلا أنها كانت ثانوية مقارنة بعبادات الآلهة الذكور , ولم تستعد أبدا مكانتها المفقودة التي كانت لها عند السومريين والأناضوليين الأوائل . ففيما كان الملوك المبكرون لدول المدن السومرية يقومون سنويا بطقوس الجنس المقدس في هيكل الإلهة إنانا كوظيفة لازمة لمنصبهم الملكي ضمانا لخصوبة الأرض طوال العام , تخلى الملوك المتأخرون ( الأكاديون ومن بعدهم البابليون والآشوريون ) عن ذلك وانصرفوا إلى شؤون الجيش والحرب , معلنين بذلك أن عهد الأنثى قد ولى وأن العهد الجديد هو للذكر .
هذا السقوط لمكانة الإلهة الأنثى في الشرق القديم أدى إلى تدني منزلة المرأة وصعود دور الرجل , فتم تحريم العادة القديمة التي كانت تسمح بتعدد الأزواج للنساء حوالي القرن 24 قبل الميلاد ( من قبل الملك السومري أوروكاجينا ) , وجاء النص القانوني لحمورابي في القرن 18 قبل الميلاد ليجعل الطلاق في يد الرجل سالبا إياه من يد المرأة . وبعد أن كانت العلاقة الجنسية بالتراضي خارج إطار الزواج بين الرجل والمرأة غير معاقب عليها كما يظهر في شريعة نيسيليم الحثية ( القرن 16 قبل الميلاد ) جاء القانون الآشوري في القرن 11 قبل الميلاد ليحرمها وليمنح والد المرأة حق معاقبتها على ذلك كما يريد , كذلك منح هذا القانون للرجل حق ضرب الزوجة , وسبق ذلك ظهور النقاب لأول مرة في القرن 13 قبل الميلاد في آشور , مما مثل تراجعا كبيرا لحقوق المرأة ومكانتها في الشرق .
بل وحتى عند العبرانيين , البداة البعيدين عن مراكز الحضارة المدنية فقد ظهر سقوط الأنثى ومثل بكافة مراحله في السفر الأول للكتاب المقدس , وبعد أن كان إله العبرانيين يذكر  في القرون الأولى للدين اليهودي مقرونا بزوجته الإلهة عشيرة , اضمحل ذكر الربة الأنثى وغابت في النسيان ليبقى رب الجنود العبراني وحيدا .
كانت الدولة الآشورية هي الأكثر تشددا على المرأة من بين جميع جيرانها الرافديين بحكم طابعها العسكري البحت , لكن هذا التشدد انتقل فيما بعد إلى جميع شعوب المنطقة , وذلك حين توسع الآشوريون في عصر الإمبراطورية الجديدة ومدوا سلطتهم على كامل بقاع الهلال الخصيب , الأمر الذي خلق مع حلول القرن السادس قبل الميلاد وقبيل سقوط مدن الرافدين وفينيقيا أمام الغزو الأجنبي مجتمعا أبويا ذكوريا محافظا متشددا على المرأة , ناظرا إليها على أنها دنس ورجس وعار من بعد أن كانت إلهة قدسية ومنبعا للخصب والحياة .