الأحد، 10 مايو 2015

قصة الله...

كان يهوه إله العواصف الأدومي وطوال مدة الألفية الثانية قبل الميلاد مجرد إله كنعاني صغير الأهمية ضعيف الشهرة لسكان جنوب غرب سوريا من العشائر البدوية , وكانت عبادته في ذلك الحين محدودة في أقصى الجنوب الفلسطيني فحسب , ومحصورة ضمن قبائل الأدوميين ورعاتهم الساكنين في صحراء النقب , والذين عبدوا إلى جانب يهوه العديد من أشقائه الأكثر شهرة والأعظم شأنا في ذلك الزمان من الآلهة الكنعانية الكبرى , أمثال بعل وعناة وعشتاروت وسواهم .
كانت بداية نهوض عبادة يهوه مع حلول القرن التاسع قبل الميلاد , حين ظهرت موضة دينية جديدة في المناطق والممالك الكنعانية هي موضة الإله القومي , إذ صار حينها لكل شعب من شعوب الكنعانيين إلهه القومي الخاص , والذي كان حاميا للشعب وحافظا له وعونا له في حروبه ونزاعاته وأمور حياته المختلفة , فكانت تلك إذا هي البداية المتواضعة للتوحيد . إذ أفرد كل شعب من شعوب الكنعانيين عبادته لإله واحد لا شريك له هو الإله القومي الذي كان إلها مطلقا على كل شؤون ذلك الشعب , من دون أن تنكر تلك الشعوب وجود آلهة أخرى معبودة عند جيرانها . وبذلك فقد ارتقت حينها منزلة يهوه قليلا , وتطورت عبادته التي كانت قبل ذلك ثانوية وهامشية لتصير أكثر قوة وأعظم رسوخا في مجتمع الكنعانيين الجنوبي البدوي . ومثلما صار الإله القومي للمؤابيين (الساكنين في شرق البحر الميت) هو شمش , ومثلما صار الإله القومي للعمونيين (الساكنين في الأردن شمال مدينة عمان) هو مولوك , فكذلك صار يهوه هو الإله القومي لشعب الإسرائيليين العبرانيين , الذي أخذوا عبادته من جيرانهم الأدوميين الساكنين إلى الجنوب منهم ضمن صحراء النقب وعلى أطراف سيناء .
وفي نظر كل تلك الشعوب فقد كان الإله القومي الخاص بكل منها هو نفسه الإله الكنعاني الأكبر إيل , والذي كان يعد تقليديا وبنظر الكنعانيين الأوائل رب السماء ووالد الآلهة كلها وملكها وعظيمها . ويمكن لنا وإلى الآن أن نشاهد ملامح عبادة الإله إيل عند العبرانيين في أسماء شخصيات الأديان الإبراهيمية , وفي أسماء الملائكة التي حمل الكثير منها لفظة إيل , كإسرائيل وإسماعيل وجبرائيل وميكائيل وسواهم الكثير . ولما أن صار يهوه عند الإسرائيليين هو نفسه إيل فقد صار هو بالتالي ملك الآلهة وكبيرها ووالدها , ولذا فقد استمرت عبادة تلك الآلهة إلى جانبه لمرحلة قصيرة , كانت خلالها نظرة العبرانيين إليها على أنها أبناء الإله الأكبر يهوه وبناته , وذريته الخاضعة له والطائعة لأمره .
لكن ذلك لم يدم طويلا , إذ أن تعاظم الدور القومي ليهوه منذ القرن السابع قبل الميلاد أدى إلى منحه المزيد من الوحدانية وإفراده بالمزيد من العبادة والخضوع , فتراجعت بالنتيجة عبادة الآلهة الكنعانية التقليدية وانحسرت لحساب عبادة يهوه وعبادة زوجته عشيرة التي كانت زوجة إيل في الدين الكنعاني الأصلي , والتي ورد ذكرها في العهد القديم مرات عديدة وقامت تماثيلها في هيكل سليمان حتى القرن السادس قبل الميلاد وأشير إليها بلقب سيدة السماء على لسان النبي جرميا . ولم يطل الزمن حتى لحقت عشيرة ببقية الآلهة الكنعانية , تاركة زوجها وحيدا على عرش ربوبية مملكة إسرائيل نتيجة لضغط كهنة الهيكل , إذ كان الإسرائيليون في ذلك الزمان في حالة حرب مع الفينيقيين الذين كانوا شديدي التقديس لعشتار , ولأن عشيرة  عند الإسرائيليين كانت أحد وجوه عشتار الفينيقية فقد نبذها الكهنة وحاربوها بداعي المصلحة السياسية .
ما تلى ذلك كان مجرد تاريخ , إذ ظهر الأنبياء الإسرائيليون الذين حاربوا عودة عبادة الآلهة الكنعانية إلى إسرائيل , وكأن إلههم يهوه لم يكن كنعانيا ! مثلما ظهر نظراؤهم من الأنبياء القوميين في كل الممالك المجاورة , وإن كان أولئك بالطبع مبشرين بلإله القومي الخاص بكل منهم , كل حسب مملكته . ولأن مجريات التاريخ حكمت بأن تفنى كل تلك الشعوب الكنعانية المجاورة ويبقى شعب الإسرائيليين وحده حيا إلى زمن الاحتلال الروماني , فقد صادف أن تصير اليهودية (المشتقة من اسم يهوه) هي الدين الأول المنادي بالتوحيد , لا الشمشية (التي كانت دين المؤابيين) ولا المولوكية (التي كانت دين العمونيين) مثلا! ولما أن اختلطت باليهودية تأثيرات الدين الزرادشتي الآتي من بلاد فارس ومعها تأثيرات الفلسفة اليونانية وأديان البعث السورية والفينيقية فقد ولدت أخيرا الديانة المسيحية , ومن بعدها بعدة قرون كانت أيضا ولادة الإسلام .
اللوحة للفنان الإيطالي لودوفيغو مازولينو (1480-1528م) وتحمل العنوان: "الإله الآب"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق