ما هي الخطيئة الأصلية التي اقترفتها المرأة حتى سقطت من جنة عدن القديمة وخسرت ألوهيتها ومكانتها المجيدة ؟ ماهي الثمرة المحرمة التي جعلت حواء ملعونة بعد أن كانت قديسة , وجارية بعد أن كانت حاكمة ؟
كانت الإلهة الأنثى قديما رأس الديانة الشرقية, وراهباتها كن رأس الكهنوت وحاملات أسرار الخصوبة لسكان السهول الممتدة من دجلة إلى المتوسط , ومنزلة الأنثى في عين أسرتها وعين مدينتها كانت هي الأجل والأقدس , إذ كانت هي الأم التي تخلق وتلد , وبفعلها ذاك فقد كانت مماثلة للآلهة , ولذلك عدت الأولى دائما فنسبت الأسرة إليها بدلا من الذكر ونسب الأطفال إليها بدلا من الذكر, وتمحور الدين حولها بدلا من الذكر .
بدأ سقوط الربة الأنثى حين أدى نمو مدن الشرق القديم وتوسعها البشري والزراعي في بدايات الألف الثالث قبل الميلاد إلى وصول تلك المدن لمرحلة التماس السياسي والأقتصادي ومن ثم العسكري , فتضخمت الجيوش للدفاع والغزو , ومن ثم تهاوت أسوار المدن أمام كتائب الجيش الأقوى لتنتقل الحضارة مع أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد من مرحلة الدولة المدينة إلى مرحلة المملكة المركزية . أدى هذا الانتقال إلى عسكرة الدين والدولة , مثلما أدى إلى الهبوط التدريجي لمنزلة إلهة الخصوبة الأنثى مقابل صعود مكانة آلهة الحرب الذكور , مع تمجيد المجتمع والدولة لفضائل الذكورة والرجولة الحربية بدلا من فضائل الأنوثة والخصوبة الزراعية .
حل الأرباب المحاربون إذا محل إنانا وعشتار , وطبعوا المجتمع السوري الذي كان ذات مرة أموميا وزراعيا بالطابع الأبوي الذكوري العسكري , وعلى الرغم من بقاء عبادة الإلهة الأنثى موجودة وقوية طوال الألفيتين الثانية والأولى قبل الميلاد إلا أنها كانت ثانوية مقارنة بعبادات الآلهة الذكور , ولم تستعد أبدا مكانتها المفقودة التي كانت لها عند السومريين والأناضوليين الأوائل . ففيما كان الملوك المبكرون لدول المدن السومرية يقومون سنويا بطقوس الجنس المقدس في هيكل الإلهة إنانا كوظيفة لازمة لمنصبهم الملكي ضمانا لخصوبة الأرض طوال العام , تخلى الملوك المتأخرون ( الأكاديون ومن بعدهم البابليون والآشوريون ) عن ذلك وانصرفوا إلى شؤون الجيش والحرب , معلنين بذلك أن عهد الأنثى قد ولى وأن العهد الجديد هو للذكر .
هذا السقوط لمكانة الإلهة الأنثى في الشرق القديم أدى إلى تدني منزلة المرأة وصعود دور الرجل , فتم تحريم العادة القديمة التي كانت تسمح بتعدد الأزواج للنساء حوالي القرن 24 قبل الميلاد ( من قبل الملك السومري أوروكاجينا ) , وجاء النص القانوني لحمورابي في القرن 18 قبل الميلاد ليجعل الطلاق في يد الرجل سالبا إياه من يد المرأة . وبعد أن كانت العلاقة الجنسية بالتراضي خارج إطار الزواج بين الرجل والمرأة غير معاقب عليها كما يظهر في شريعة نيسيليم الحثية ( القرن 16 قبل الميلاد ) جاء القانون الآشوري في القرن 11 قبل الميلاد ليحرمها وليمنح والد المرأة حق معاقبتها على ذلك كما يريد , كذلك منح هذا القانون للرجل حق ضرب الزوجة , وسبق ذلك ظهور النقاب لأول مرة في القرن 13 قبل الميلاد في آشور , مما مثل تراجعا كبيرا لحقوق المرأة ومكانتها في الشرق .
بل وحتى عند العبرانيين , البداة البعيدين عن مراكز الحضارة المدنية فقد ظهر سقوط الأنثى ومثل بكافة مراحله في السفر الأول للكتاب المقدس , وبعد أن كان إله العبرانيين يذكر في القرون الأولى للدين اليهودي مقرونا بزوجته الإلهة عشيرة , اضمحل ذكر الربة الأنثى وغابت في النسيان ليبقى رب الجنود العبراني وحيدا .
كانت الدولة الآشورية هي الأكثر تشددا على المرأة من بين جميع جيرانها الرافديين بحكم طابعها العسكري البحت , لكن هذا التشدد انتقل فيما بعد إلى جميع شعوب المنطقة , وذلك حين توسع الآشوريون في عصر الإمبراطورية الجديدة ومدوا سلطتهم على كامل بقاع الهلال الخصيب , الأمر الذي خلق مع حلول القرن السادس قبل الميلاد وقبيل سقوط مدن الرافدين وفينيقيا أمام الغزو الأجنبي مجتمعا أبويا ذكوريا محافظا متشددا على المرأة , ناظرا إليها على أنها دنس ورجس وعار من بعد أن كانت إلهة قدسية ومنبعا للخصب والحياة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق