ما أن وضعت أسس علم اللغات المقارن وقواعده
لأول مرة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى بدأت الأسر اللغوية التي نعرفها
ونألفها الآن بالتتالي والتتابع في ظهورها . إذ حدد الباحثون اللغويون الأوائل ومنذ
عهد مبكر جدا أسرة اللغات السامية , والتي شملت كلا من اللغات العربية والعبرية والآرامية
والفينيقية والأكادية وغيرها من لغات الشرق الأدنى التي سكنت قديما أو ما تزال تسكن
إلى الآن أراضي الهلال الخصيب وبوادي الجزيرة العربية (1) . مثلما حددوا أسرة اللغات الهندية الأوروبية أو
الهندوأوروبية , والتي ضمت تحت جناحها كلا من لغات شمال الهند وإيران ولغات اليونانيين
والجرمانيين واللاتينيين والسلاف (الروس والأوكرانيين والصرب وسواهم من شعوب شرق أوروبا)
, وسواها من لغات الشعوب التي تنتشر حاليا على طول القوس الواصلة بين شمال الهند وغرب
أوروبا , والتي انحدرت جميعها من الشعب الهندوأوروبي الأول . ولأن البحث المتواصل والعمل
الدؤوب في هذا المجال استمر من دون انقطاع
طوال قرنين من الزمن فقد تمكن الباحثون تدريجيا من تصنيف معظم شعوب وأمم العالم بحسب
لغاتها ولهجاتها , مثلما تمكنوا من إلقاء بعض الضوء على الماضي القديم لتلك الشعوب
ومن رسم خطوط هجراتها التي عجز التاريخ المكتوب وحده عن ملاحقتها أو عن كشف أسرارها
, ليصير علم اللغات المقارن بنتيجة ذلك خير عون للباحثين وللمؤرخين في إعادة كتابة
الفصول الغامضة والمنسية من تاريخ الحضارة البشرية .
مناطق الانتشار الأصلية لأسرة اللغات الهندوأوروبية (رمز الصليب المرسوم إلى جانب اللغتين الأناضولية والتوخارية يشير إلى أنهما لغتان منقرضتان حاليا) |
وهكذا فقد تتالت الأسر اللغوية المختلفة
على خطا السامية والهندوأوروبية في الظهور واحدة تلو الأخرى , وبدأت لغات ولهجات شعوب
العالم المختلفة تنتظم جميعها وتصطف وتترتب ضمن مجموعات لغوية واضحة الحدود وبينة الخصائص
. فظهرت الأسرة الألطائية التي شملت اللغات المنغولية والتركية واليابانية والكورية
, وظهرت الأسرة الأورالية التي شملت اللغتين الهنغارية والفنلندية وبضعة لغات أخرى
أصغر منهما سكنت الشمال الأوروبي والآسيوي الأقصى , وظهرت الدرافيدية التي شملت كافة
لغات جنوب الهند , والكارتفيلية التي شملت لغات جنوب القوقاز (2) . ثم اكتشفت أخيرا الأسرة الأفريقية الآسيوية أو
الأفروآسيوية , والتي جمعت ضمن نطاقها كلا من الأسرة اللغوية السامية والمصرية القديمة
(المحكية زمن الأسر الفرعونية) والبربرية وبضعة أسر لغوية أخرى سائدة حاليا في شرق
ووسط أفريقيا , والتي ردتها جميعها إلى لغة أصلية مشتركة قديمة عاشت في فترة تتراوح
بين 10000 إلى 18000 عام قبل الآن هي اللغة الأفروآسيوية الأم Proto-Afroasiatic
language. ففتحت الأفروآسيوية
الباب بذلك أمام نوع جديد من التصنيفات اللغوية هو الأسرة الكبرى , والتي صارت تتألف
من عدة أسر لغوية مستقلة ومؤسسة سلفا عثر بينها على صلات قديمة أكدت انحدارها كلها
من سلف قديم ولغة واحدة كانت الأصل لها جميعا .
مناطق الانتشار الحالية للأسر اللغوية الأفروآسيوية |
وما إن بدأت مرحلة الأسر اللغوية الكبرى
هذه حتى ظهر ضمن المدارس اللغوية توجه جديد ذو طموح كبير , حدد هدفه في العثور على
السلف المشترك القديم الذي انحدرت منه كل اللغات البشرية التي نعرفها الآن أو معظمها
على الأقل . وللأسف فقد أثبت هذا التوجه عبثيته وعدم جدواه , إذ كان من الواضح أن البحث
عن اللغة البشرية الأولى ما يزال حلما بعيد المنال , تعجز عنه وسائل علم اللغات المقارن
التي ما تزال (وحتى الآن) غير قادرة على الغوص في عمق الماضي لأكثر من ألفيات معدودة
من الزمن فحسب .
غير أن جهود اللغويين في هذا المجال لم
تذهب كلها سدى . فبرغم فشلهم في العثور على اللغة البشرية الأولى كان من الواضح لديهم
أنهم قد عثروا بالفعل على شيء شديد الشبه بها . كان ما عثروا عليه هو لغة قديمة جدا
تم تحديد عمرها بحوالي الخمسة عشر ألف عام قبل الآن , وبالرغم من أنها لم تكن بكل تكيد
السلف لكل اللغات البشرية الحالية , إلا أنها كانت على ما يبدو سلف 90% منها ! كانت
تلك هي اللغة النوستراسية الأولى .
كانت اللغة النوستراسية الأولى حسب الباحثين
المدافعين عن الفرضية النوستراسية سلف كل من الأسر الأفروآسيوية , والهندوأوروبية
, والألطائية , والأورالية , والكارتفيلية (القوقازية الجنوبية) , والدرافيدية , وربما
العيلامية حتى (حسب بعض الباحثين) , أي أنها كانت اللغة الأم لكل الشعوب الساكنة في
الرقعة الممتدة من وسط آسيا شرقا حتى المحيط الأطلسي غربا , ومن ألمانيا واسكندنافيا
شمالا حتى الصحراء الأفريقية الكبرى جنوبا . ولما كانت هذه الفرضية مفرطة في جرأتها
ومدعومة بكم كبير من الأدلة التي تبرر تلك الجرأة فقد سطع اسمها بشدة ولمع نجمها منذ
أن ظهرت لأول مرة في مطلع القرن العشرين , ونالت سريعا شهرة واسعة مثلما أثارت وسط
الباحثين اللغويين جدلا عنيف ما يزال مستمرا حتى يومنا هذا . غير أن هذا الجدل العنيف
المتواصل لم ينف أبدا وجود نقاط رئيسية ثابتة
اتفق عليها معظم المؤيدين للفرضية النوستراسية . وفي مقدمة تلك النقاط نجد العمر المفترض
للغة النوستراسية الأولى , والذي يعود بها وفي معظم النماذج التاريخية إلى العام
12500 قبل الميلاد , مثلما نجد الموطن الأصلي لتلك اللغة , والذي يحدد عادة ومن قبل
معظم الباحثين على أنه كان في الهلال الخصيب في الفترة التي سبقت تماما اختراع الزراعة
.
إذا أردنا أن نعبر عن نظرة عموم الباحثين
الحالية إلى الفرضية النوستراسية فيمكن لنا أن نقتبس مقولة أحد اللغويين : "there's too much there to be nothing , but not enough there to be
something" . فبالرغم
من عدم العثور على الدليل الكافي للبرهان على صحة هذه الفرضية حتى الآن (3) إلا أن العاملين في الحقل اللغوي حددوا العديد من
الروابط اللغوية والسمات المشتركة التي تجمع بين الفروع النوستراسية المفترضة , والتي
وإن كانت لا تكفي تماما للجزم بحقيقة انحدار تلك اللغات من سلف واحد مشترك قديم , إلا
أنها حكما وفي الحد الأدنى تكفي للجزم بأن تلك اللغات كانت عند ميلادها محصورة ضمن
بقعة جغرافية واحدة مشتركة حققت لها تلك الدرجة العالية من التشابه في الشكل والقواعد
والضمائر والمفردات , وذلك بغض النظر عن كونها منحدرة من سلف واحد مشترك أم لا .
وبناءا على ذلك , وحتى وإن كانت الفرضية
النوستراسية غير مثبتة تماما حتى الآن فأن من الثابت لغويا وجود الشعوب النوستراسية
الأولى ضمن الهلال الخصيب حوالي العام 12500 ق.م , وذلك قبيل اختراع الزراعة وبدء تلك
الشعوب بالتوسع والهجرة إلى أقاليم العالم المختلفة . ولذلك فإن دراسة هذه الأسرة اللغوية
تبقى في جميع الأحوال ذات أهمية عالية في إعادة كتابة تاريخ الهلال الخصيب ورسم مسار
الهجرات الزراعية التي خرجت منه إلى أقاليم العالم القديم .
مناطق الانتشار اللغوية النوستراسية بفروعها , الأفروآسيوية والكارتفيلية والدرافيدية والألطائية والأورالية والهندوأوروبية |
تشكل اللغات النوستراسية كما ذكرنا حوالي
90% من اللغات الحية في عصرنا هذا , ويبلغ عدد الناطقين بها الآن أكثر من خمسة مليارات
نسمة . الأمر الذي يوضح لنا الأثر الثقافي المرعب الذي تستطيع جماعة صغيرة من الصيادين
الرحل عاشت قبل أربعة عشر ألف عام من الآن أن تتركه على وجه التاريخ .
(1) فكانت
بذلك كل تلك اللغات إذا منحدرة من لغة أصلية واحدة قديمة تكلم بها في سالف الزمن
شعب أصلي واحد قديم هو الشعب السامي الأول , والذي كان السلف المؤسس لكل تلك
اللغات وكل تلك الأقوام
(2) نجد
من الأسر الأخرى أسرة اللغات القوقازية الشمالية , وأسرة اللغات الصينية التيبتية
, وأسرة اللغات الأوسترينيزية في جنوب
شرق آسيا , بالإضافة إلى العديد من الأسر اللغوية الصغرى الساكنة ضمن الأمريكتين والشطر
الجنوبي من القارة الأفريقية . ويضاف إلى ما سبق مصطلح اللغات المعزولة الذي يشير إلى اللغات التي لا ترتبط بسواها
بأي صلة قرابة , كالسومرية والعيلامية والباسكية وغيرها
(3) والمرجح
هو أن مثل هذا الدليل اللغوي لن يظهر أبدا بالنظر إلى الفترة الزمنية القديمة جدا
التي عاشت فيها اللغة النوستراسية الأولى , إذ تعجز وسائل علم اللغات المقارن
الحالية عن سبر مثل هذه الفترة القديمة جدا بشكل مؤكد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق