أرض مقفرة موحشة قليلة السكان غاصة بالاضطرابات و الحروب المدمرة ,
اقتصاد زراعي منهك محطم خاضع بجملته لنبلاء الإقطاع , بلاد استنزفت الحروب دماءها
و حطمت ما لديها من قوة غزوات الجرمانيين وهجمات الاسكندينافيين الشماليين , طرق
تجارية معدومة الأمان قليلة الحركة ينهبها كل من قطاع الطرق وجباة الضرائب , عدد
لا يحصى من الدويلات و أشباه الدويلات المتناثرة داخل حدود كل مملكة لتزاحم ملكها
صاحب التاج في نفوذه وسلطته , شعب غارق في الجهل والأمية وخاضع في أفكاره خضوعا
تاما للقيود الدينية والخرافات وأساطير الجن والشياطين , كنيسة زمنية مسيطرة على
فئات الشعب ومالكة لثلث أراضي القارة الأوروبية , أديرة ونظم رهبنة فقدت منذ زمن
طويل إخلاصها ونقاءها وانغمست في الملذات والمفاسد والإثراء الجشع , ملوك مستبدون
وعلم مضمحل وخرافة سائدة ودين صارم وشعب ضعيف جاهل منكسر خانع , تلك كانت حالة
أوروبا في العصور الوسطى .
لقد أنهى الهجوم الجرماني المنقض على البلاد الجنوبية الأكثر مدنية والأغزر
حضارة فترة السلام الروماني التي سادت القارة لأمد طويل , فغرقت الأقاليم
الأوروبية ابتداءا من القرن الرابع الميلادي في حمأة الوهن والضعف والفوضى التي لا
خلاص منها . وجعل غياب السلطة المركزية بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية
وانحسار نفوذ بيزنطة عن أرجاء القارة وغزوات شعوب الفايكنج الوثنية وغاراتهم على
سواحل القارة , جعل كل ذلك من البلاد الأوروبية بؤرة للضياع وفريسة للضعف العسكري
والتقهقر السياسي . ويضاف إلى ما سبق انتشار الديانة المسيحية في الفترة القصيرة
التي سبقت غزوات الجرمان , إذ عملت الديانة الجديدة على إرساء مبادئ المحبة
والتسامح والروح السلمية بدلا من أخلاق الرجولة الحربية الرومانية التي كانت سائدة
من قبل , وهذا بدوره ساهم في إضعاف نفوس الأوروبيين وصرفهم عن حياة الحرب والكفاح
إلى الأديرة وحياة الرهبنة , ولولا مجيء الجرمانيين حينها وضخهم في العروق
الأوروبية بعضا من دمائهم الحارة وأخلاقهم الحربية لفقد ذلك الشعب الواهن إرادة
الحياة . كذلك , أدى انعدام الأمن إلى تعطل التجارة وخراب الصناعة وأجبر الاقتصاد على
التراجع إلى نمط الحياة الزراعي الصرف . ولأن الشعب الزراعي كان على الدوام خاضعا
بطبيعته للدين و للسلطة الغيبية بحكم ارتباط حياته بالأمطار التي تغزر أو تشح تبعا
لسلطة آلهة السماء , فقد أدى التحول السابق نحو الزراعة إلى ازدياد التقوى
والإخلاص وإلى تحلي السكان بالمزيد من الحماس للكنيسة الكاثوليكية ولممثليها في
البلاد الأوروبية . ولأن نظم الاقتصاد الزراعي صارت هي السائدة فقد صار من الطبيعي
أن يقيم الأمراء والإقطاعيون الجدد قصورهم في الأرياف و الضياع وسط أراضيهم و
أملاكهم , مما أدى إلى اضمحلال المدن وتراجعها ففقدت دورها الاقتصادي الذي انسحب
منها وتوجه إلى الريف . ولما كانت الحضارة والمدينة متلازمتان على الدوام نظرا لما
تقدمه الأخيرة من تنوع في الأفكار وتنوع في الحرف وحركة تجارية دائبة تجمع البشر
من كل البلدان , فقد اضمحلت الحضارة نتيجة لاضمحلال دور المدينة واضمحلت معها
الثقافة والعلوم والفنون والآداب , وأضحت العلوم مركزة بأيدي رجال الدين الذين
خزنوها في بطون الكنائس و الأديرة . ولأن تراجع التجارة أدى إلى جعل الورق سلعة
غالية الثمن لا سبيل لإيجادها فقد ارتفعت تكاليف النسخ والتأليف وأصبحت باهظة لا
يطيقها إلا ذوي اليسار من النبلاء ورجال الكنيسة , وهذا بدوره أدى إلى انهيار حركة
التأليف والترجمة والإبداع والنسخ . وبنتيجة هذا كله فقد بدت حالة التخلف والضعف
التي غرقت فيها أوروبا مستعصية على أي قوة تسعى لحلها . علوم متهالكة وشعب فقد
أخلاقه وروح دينه وإن تشبث بتعصبه وبعقائده , وملوك طغاة مستبدون حكموا البشر
"بالحق الإلهي" ورجال دين فاسدون مترفون نبذوا العقل والعلم وعدوهما
نتاج الخطيئة , تلك حال أوروبا في عصورها المظلمة , فأي قوة مهما كانت قادرة على
انتشالها من مستنقع القذارة والهمجية والتخلف ذاك .
في يوم الثلاثاء الموافق للسابع و العشرين من شهر تشرين الثاني عام
1095م , ألقى قداسة البابا أوربانوس الثاني في مدينة كليرمونت بجنوبي فرنسا خطبة
نارية حث فيها المؤمنين على مهاجمة المشرق العربي لاستعادة أورشليم وتطهيرها من
"الكفار" . ومنذ ذلك الحين توالت الحملات الصليبية واستمرت منهالة من
الغرب طوال قرنين دمويين من الزمن , تدفقت فيهما الجيوش الأوروبية إلى مدن فلسطين
والساحل السوري حاملة معها بربرية الجرمان الوحشية وهمجيتهم التي خربت في القديم
حضارة الرومان ودمرتها . وبالرغم من الدماء التي سفكت وبالرغم من الأرواح التي
أهدرت فقد كانت هذه الحملات الصليبية هي الشرارة الأولى التي فجرت النهضة في قلب
أوروبا , ولم تغط هزيمة الأوروبيين فيها على الدور الحضاري الكبير الذي لعبته في
نقل معارف الشرق وسلعه إلى أوروبا , وإن كانت هذه الحروب هي السبب في اضمحلال
الحضارة وتراجعها عند دول المسلمين التي استنزفت برغم انتصارها وخسرت ما لديها من
شباب و حيوية , فقد كانت هي أيضا اليد التي حملت بذور تلك الحضارة لتنثرها على
الجانب الآخر من المتوسط , وبهذه اليد دق أول إسفين في تابوت العصر الأوروبي
المظلم .
فنشوء الإمارات اللاتينية المشرقية جعل من خطوط التجارة إلى أوروبا أقصر وأسهل
, مثلما جعلها بيد التجار من مدن إيطاليا (فينيسيا وجنوا و بيزا وغيرها ) , لتنتقل
بذلك عائداتها من جيوب التجار العرب إلى جيوب التجار الإيطاليين ولتتعزز بالنتيجة
مكانة المدينة ويبدأ نموها وارتفاع مكانتها على حساب الريف , فمهدت الحروب
الصليبية بذلك لإنهاء النظام الإقطاعي ولإقامة النظام البرجوازي المدني على أنقاضه
. كذلك , فإن علوم اليونان و آدابهم وآراؤهم الفلسفية انتقلت عبر هذا الطريق
الصليبي إلى أوروبا , وكان في مقدمة تلك العلوم والآراء فلسفة أرسطو التي اعتمدتها
الكنيسة الكاثوليكية من فورها بعد أن أضفى عليها القديس توما الأكويني الصبغة
المسيحية ليقيم عليها أسس الفلسفة المدرسية . ومع الفلسفة اليونانية تسربت الآداب
والفنون العربية أيضا إلى الأوروبيين الصليبيين , وإن كان الطريق الأندلسي أشد
غزارة من الطريق الفلسطيني بالنسبة إلى هذه الناحية . إذ انتقل من الأندلس فن
الموشحات وتدفقت الأشعار العربية الرقيقة إلى فرنسا وبخاصة إلى إقليم بروفانس الجنوبي
فيها , ليقوم على أساساتها شعر التروباديين الجوالين الذي غير طباع الأوروبيين وصرف
أذهانهم قليلا عن عالم الحرب الموحش إلى دنيا الرقة والحب والغراميات . فإن عدنا
إلى الحروب الصليبية لوجدنا أن آثارها لم تقتصر على مجالي الاقتصاد والفن , بل
تعدتها إلى مجالات أوسع و أخطر , إذ أن الهزيمة التي لقيها الأوروبيون بذرت في
نفوسهم الشك بصحة معتقداتهم وبدأت بإسدال الستار على عصر الإيمان لينتهي عهد
الخضوع المطلق للكنيسة . فالأوروبيون المؤمنون الذين توقعوا نصرة الرب لهم في
حربهم المقدسة صدموا صدمة قاسية لهزيمتهم المريرة وتزعزعت أساسات الدين في نفوسهم
, ونشأت نتيجة لذلك هرطقات عديدة وفدت إلى القارة من بلاد الشرق الإسلامي , مثلما ظهر
نتيجة لذلك جيل من الملوك قليلي الإيمان الذين واجهوا البابوية وسخروا منها
وناصبوها العداء . فالملك الفرنسي فيليب الثاني أغسطس نازع البابا لمعارضته حكم
الطلاق الذي أجراه فيليب على زوجته , ووصل الأمر بالملك الغاضب إلى التهديد
باعتناق الإسلام , وملك ألمانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة فريدريك الثاني حامي
حمى الكاثوليكية (نظريا) وصل استخفافه بالدين ولامبالاته بالأوامر البابوية حدا
أدى إلى ذيوع الشائعات التي تتهمه بالإلحاد , واتهمه أعداؤه بكونه منتميا إلى دين
محمد أكثر منه منتميا إلى دين المسيح , إلا أن هذه التهمة كانت في نظر العامة
سخيفة غير مقنعة , فالمقنع في نظرهم كانت أقواله التي نقلت عنه بأن "ثلاثة من
المشعوذين ساقوا بدهائهم أهل زمانهم ليسودوا بهم العالم , موسى ويسوع ومحمد
." وأدت هذه الوقاحة الملكية إلى قيام عدة حروب بين البابوية و الإمبراطور ,
وإذ أحس القصر البابوي بتململ الملوك من سلطته فقد عمل على تدعيمها بتأسيس محاكم
التفتيش وشن الحروب محاولا المكابرة ونفي الضعف والشيخوخة عنه . فكانت الحرب
الصليبية هذه المرة داخل أوروبا , إذ شنت الكنيسة حربا على طائفة الكاثاريين التي
تفشت في جنوب فرنسا , وانتصرت الكنيسة هذه المرة , لكنها حفرت بذلك قبرها بيدها إذ
أشعلت بتلك الحرب غضبة الملوك القومية , وعملت على إضعاف رابط الدين أمام الرابط
القومي . فحين غزا نبلاء الشمال الفرنسيون مدن الجنوب وقف كاثوليك الجنوب أمام
خيارين , نصرة الكاثوليك أخوتهم في الدين , أو نصرة الكاثاريين أخوانهم في الدم ,
واختاروا الاحتمال الثاني فهزموا وذبحوا , لكن البابوية دفعت بعد ذلك ثمن سخريتها
واستهزائها بالسيادة القومية , إذ لم تكد تمض فترة قصيرة من الزمن حتى كانت
البابوية قد انتزعت من روما وسجنت لقرن من الزمان في مدينة آفينيون الفرنسية تحت
عين الملك الفرنسي فيما سمي بفترة الأسر البابوي .
ولذا فقد كانت النتيجة فقدان أوروبا روحها الدينية التي ربطتها
بالسماء وكانت عزاءها و سلواها لقرون , ووقفت الكنيسة آنذاك عاجزة تضرب معارضيها
وتضطهدهم وتصدر أحكام الحرق وتلاحق الهرطقة , لكن ضرباتها كانت تنبه الناس أكثر
إلى مدى خنوعهم لسلطة التدين السطحي الزائف الذي يكبل عقولهم ويطوقها بسلاسله .
وحين أعدم المصلح الديني البوهيمي ويكلف هس اشتعل أتباعه بالغضب وواصلوا نشر
آرائهم الدينية المناهضة للطغيان البابوي , كما فجروا ثورة قومية في بلاد التشيك ضد
البابوية والقوى الموالية لها , وتلقف مارتن لوثر بعد قرن من الزمان راية النضال
ضد البابا وقاد حركة الإصلاح الديني مؤسسا المذهب البروتستانتي الذي فشا في العالم
المسيحي بعد موته شيئا فشيئا وأصبح المذهب الرسمي للعديد من الدول . وفيما انتشر
في بعض بلدان القارة هذا المذهب الداعي إلى نبذ المؤسسة الكنسية كرابط للمؤمنين بالله , بقيت بعض
الدول على ولائها للكنيسة الكاثوليكية (فرنسا – اسبانيا – البرتغال – النمسا ) وإن كان ولاءها هذا اسميا لا يساوي شيئا عند تضارب المصلحة الكنسية مع المصلحة الملكية . وفي النصف الأول من القرن السابع عشر وبعد عهود من الشحن الطائفي والديني بين المذهبين البروتستنتي الجديد والكاثوليكي القديم نشبت حرب الأعوام الثلاثين بين البروتستانت
و الكاثوليك في أوروبا , وكانت نتيجتها التخفيف من حدة التعصب الديني و المذهبي
بعد أن أدرك الطرفان المتحاربان الثمن الباهظ له . وبعد قرن آخر من الزمان كانت قد اختمرت
حركة التنوير التي أعلت من شأن العقل على حساب الخرافة , وإذ عجز رجال الدين في
زمن سطوتهم عن فصل الدين عن الخرافة فقد دفعوا الثمن الآن حينما نبذت الخرافة و
الدين سوية أمام موجة التنوير المتحمسة . ووصل عصر التنوير إلى ذروته زمن
الفرنسيين فولتير وروسو , فبينما قاد الأول الحركة الكلاسيكية ( العقلية ) التي دعت إلى فصل اللاهوت عن الأخلاق الدينية قاد الثاني الحركة الرومانتيكية ( التي غلبت
الفطرة على العقل ) ودعا إلى العودة بالإنسان إلى عصوره الذهبية البريئة الخالية
من مفاهيم الملكية أو المدنية , مدللا على تفوق الإنسان الطبيعي البدائي على
الإنسان المثقف المتحضر من الناحيتين الأخلاقية و الوجدانية . ومن فكر هذين الاثنين
ولدت الثورة الفرنسية عام 1789م التي ألغت الدين وعبدت إلهة العقل الفرنسية ماريان
, فدمرت بذلك أخيرا سيطرة الدين على العقل و الفكر الأوروبيين .
لقد كان لزوال السيطرة الدينية على الفكر تأثير كبير على الفلسفة
الأوروبية , التي كانت حتى ذلك الحين مدرسية كنسية خالية من الإبداع الذي هو الحافز
الحقيقي للفكر . فظهر جيل جديد من الفلاسفة العظام حلقوا خارج المجال الذي اختطه
أرسطو قبل ثمانية عشر قرنا , وظهرت في إنكلترا فلسفة بيكون العلمية التي حملت
إلى العلم الطريقة الاستقرائية ليعمل بها
باحثي أوروبا في القرون المقبلة , فمهدت تلك الفلسفة مهدت الطريق للفلسفة المادية ولعلم النفس
التجريبي الحديث . كذلك قدم بيكون من جديد صورة للمدينة الفاضلة كما تخيلها فكانت هذه المرة
مدينة يحكمها العلماء والحكماء لا رجال السياسة المنافقون ولا أصحاب رؤوس الأموال
الجشعون , والحرب في تلك المدينة كانت حربا على الطبيعة لا على الإنسان إذ أن
رجال الحكم كانوا يهتمون بمد نفوذ العلم والإنسان على الطبيعة والسعي لتعليل ظواهرها
وتسخيرها لخدمة الجنس البشري بكامله , وهذا التصور للمدينة الفاضلة كان تعبيرا عن
نشوة أوروبا بعلومها وثقتها بالعقل دليلا لها ومرشدا . وجاء من بعد بيكون الفرنسي
ديكارت صاحب المقولة الشهيرة " أنا أفكر إذا أنا موجود " , ومن بعدهما
ظهر أعظم يهود العصور الحديثة بلا منازع , الفيلسوف الهولندي ذو الأصل البرتغالي
باروخ سبينوزا الذي وضع فلسفة وحدة الوجود وعد الخالق والعالم المادي شيئا
واحدا , أو عد العالم المادي جسدا لله الروحي , ولم يعني بذلك إلا أن الله هو
" الطبيعة " . وليست الطبيعة التي قصدها هي هذا الجماد المحيط بنا , بل
هي الجوهر الحقيقي للعالم والقانون الذي يسير بموجبه , فكما أن قانون الدائرة هو جوهرها , فكذلك
الله هو جوهر العالم المخلوق . وبسبب فلسفته هذه طرد سبينوزا من الكنيس ومن مجتمعه
اليهودي الذي ارتاع لهول أفكاره " المخربة " , وصبت عليه لعنة من أبشع
اللعنات التي دونها التاريخ . وقد آمنت فلسفة سبينوزا بالجبرية وفضلت على الحكمين
الملكي الاستبدادي الذي يخضع الملايين لإرادة الواحد , والديمقراطي السخيف الذي
يلقي تبعة الحكم على العامة و الرعاع , فضلت على هذين الحكمين الحكم الأرستقراطي أي
حكم النخبة . والأرستقراطية هنا لا تعني أولئك النبلاء المترفين الذين كسبوا مجدهم
لشرف مولدهم فحسب بل تعني النخبة العلمية في البلاد من المثقفين وأصحاب الكفاءات
الحقيقية والروح العملية الجادة . إن سبينوزا كمعظم الفلاسفة لا يثق بالجماهير ,
ويرى أن من السهل خداعها واللعب على أوتار عواطفها من قبل خطيب مفوه أو سياسي
منافق , ومن سوء الحظ أن سبينوزا مات قبل أن ينهي رسالته في السياسة وإلا لكان قد
قدم أفكارا ثمينة حقا في الحكم والسلطة . ومن بعد وفاته آلت السيادة على العقل
الأوروبي إلى فولتير الذي يعد من أعظم من أنجبتهم أرض فرنسا , إذ كان فولتير في حياته
الصوت الناطق باسم التنوير وسيادة العقل , وشارك في وضع الموسوعة الفلسفية وعمل على
توعية الجماهير وفتح عيونهم على واقعهم المرير من جهل وتعصب وفقر وخضوع للاستبداد
, وألف في حياته أجمل الأعمال المسرحية , وكان السيد الأعظم في ميدان الهجاء الساخر
إذ لم يفقه أحد في هذا المجال . وأسهمت أعماله
الأدبية الساخرة في كل فلسفة , فكانت كنديد سخرية من مذهب التفاؤل الذي جاء به
الفرنسي لايبنتز الذي زعم أن عالمنا هو الحالة الفضلى للوجود , وكان كتابه دكتور
أكاكيا سخرية من عدوه الرياضي الفرنسي ميبيرتويس , وفي قصته لانجينو أظهر الاختلاف
القائم بين مسيحية عصره وبين المسيحية البدائية وندد باللاهوت الذي صنعه رجال
الدين الذي كرههم طوال عمره وكرهوه , وفي السنين الأخيرة من حياته بدأ أعظم إنتاج
له تحت شعار اسحقوا العار , إذ نشر المقالات القصيرة و الرسائل كالجنود لتهاجم
الكهنوت وتضرب أركان اللاهوت بقوة , وكان السبب لرسائله هذه حملة من التعصب في
جنوب فرنسا قام بها الكاثوليك ضد الأقلية البروتستانتية , وبهذا بدأت حربه ضد
الكنيسة التي قدر له في نهايتها أن ينتصر بقوة مهدت السبيل للثورة الفرنسية , ولما
مات في الرابعة و الثمانين من عمره كانت فرنسا و أوروبا كله تجله وتعظمه كما لم
يحدث قبلها أو بعدها لإنسان قط , لقد اعتبره الفرنسيون عند وفاته إلها , دون أدنى
مغالاة في وصف شعورهم , ومن بعده , كان عمانوئيل كانت الألماني فيلسوف أوروبا ,
الذي حسم المناقشات الميتافيزيقية بكتابه نقد العقل الخالص الذي يعد من أهم
الأعمال الفلسفية , وأظهر في هذا الكتاب استحالة البرهنة على أشياء كوجود الله أو
خلود الروح , فمن الأفضل في هذه الحالة التسليم بها نظرا لوجود دافع وجداني هو أشد
عمقا من العقل يقبلها كحقيقة , وللدور الكبير لهذه الأفكار في صيانة أخلاق
الجماهير وحفظ نظامهم , هذه فكرة مبسطة تافهة عن ذلك الكتاب الذي يعد من أعقد و
أعظم ما كتب في الفلسفة , والشاهد على ذلك أن الفلسفة الميتافيزيقية التي عنت
بالأمور الغيبية تلاشت من بعده , لتخلي الطريق لأنماط جديدة من الفلسفات النفسية و
الاجتماعية .
في القرن الرابع عشر في ربوع
إيطاليا نشأت الحركة التي قدر لها أن توقظ الفن و الأدب والعلوم الوثنية القديمة
لتهز بها أوروبا المسيحية , وحمل لواء هذه الحركة أوروبيون متحمسون للعلم شغوفون
بالأدب سموا بالإنسانيين . فبعد انتقال الفلسفة الإغريقية إلى مدارس الفكر
الأوروبي عن طريق الفلاسفة العرب تلهف الأوروبيون للإطلاع على الآداب والعلوم
التي تمخضت عنها تلك الفلسفة . وإذ لم يبذل العلماء العرب جهودا لترجمة الأدب
اليوناني نظرا لما فيه من وثنية صريحة وضروب من الحب الفاحش , فقد كان على
الأوروبيين القيام بذلك بأنفسهم . ومن أجل ذلك بدأ هؤلاء الإنسانيون تنقيبهم عن
الكتب والمخطوطات الثمينة في بطون الأديرة ومكتبات الكنائس والكاتدرائيات حيث حفظ
الكهنة والرهبان علومهم القيمة , وعثر على أعداد كبيرة من النصوص الهامة , وتعرف
الأوروبيون على أسلوب جديد ولغة أدبية مختلفة عما عرفوه وألفوه , وساعد على ذلك
أفواج العلماء اليونان التي تدفقت على إيطاليا هربا من المد التركي الذي كان يلتهم
أملاك البيزنطيين إذ حمل هؤلاء معهم معارفهم وعلومهم وكتبهم اليونانية القديمة
التي لا تقدر بثمن . حتى إذا جرت المباحثات بين الكنيستين الشرقية و الغربية سعيا
إلى لم شملهما من جديد في كنيسة واحدة ازدادت أعداد العلماء اليونانيين الذين
انتقلوا إلى إيطاليا , ووصلت أعداد هؤلاء إلى ذروتها بعد سقوط القسطنطينية إذ هاجر
معظم علمائها إلى المدن الإيطالية حاملين معهم المعارف و الكتب التي فجرت النهضة
العلمية . وازداد فخر الإنسانيين باللغة اللاتينية التي سادت روما القديمة
فاختاروا لأنفسهم أسماء لاتينية وأدخلوا اللغة اللاتينية على بعض المصطلحات
الدينية , وازدروا اللغة العامية الإيطالية وعدوها لغة للأدب الرخيص العامي ,
لكنهم صدموا بشاب يخرج من وسط صفوفهم ليكتب بها وليرفعها إلى مقام اللغة القومية
الملائمة للشعر الحقيقي , إذ نهض في ذلك الوقت الشاعر الإيطالي دانتي ألجييري فألف
ملهاته الإلهية . وإذ كان موضوع الملهاة دينيا فلسفيا ينتمي إلى فكر العصور الوسطى
, فقد كانت لغتها ثورية تماما , فقد كتبت باللغة الإيطالية لا باللغة اللاتينية
التي كانت قبل ذلك لغة الأدب , وحذا حذو دانتي من بعده شعراء آخرون عمدوا إلى
استخدام اللغة الإيطالية التي كانت تعتبر ككل اللغات القومية الأوروبية لهجة عامية
سوقية لا تليق بحفظ الآثار العظيمة , من هؤلاء الشعراء كان بترارك , بوكاشيو , وآخرون
غيرهم , ولم يقتصر الأثر الإنساني على الأدب وحده , بل تعداه إلى العلوم الطبيعية
والتاريخ , فتلاشى أسلوب الكتابة العلمية القديم الذي كان زاخرا بالأساطير والمعلومات
الغير مدققة والفوضى في الأسلوب والشرح , وحل محله أسلوب جديد قائم على التجربة
والنقد والفحص الدقيق والترتيب المتسلسل للفكر و المواضيع , فتأسس بذلك الأسلوب
العلمي الحديث في البحث والتأليف .
وبعيدا عن المجالين الديني و العلمي , كانت النهضة تعمل على تغيير
الجانب الاقتصادي , فصعود الطبقة الجديدة من التجار البرجوازيين أنعشت الحركة
المالية في المدن والمرافئ مما أدى إلى ازدهار حركة التصدير و الاستيراد , وتضاعفت
أعداد المصارف بسرعة كبيرة لتمد هؤلاء التجار بالقروض والأموال الغزيرة التي
استودعها فيها المغامرون من النبلاء و الأثرياء , فازدادت كميات النقد المنصبة على
الميدان التجاري وانتقلت السيادة الاقتصادية من الزراعة إلى التجارة , وبحكم
موقعها كانت المدن الإيطالية رائدة هذه النهضة التجارية ساعدها على ذلك أساطيلها
البحرية وقربها من الموانئ والمرافئ الشرقية وسيطرتها على عدد كبير من المستعمرات
و الجزر في اليونان وبحر إيجة , فلما بدأ عهد الكشوف الجغرافية انتقلت السيادة الاقتصادية
إلى الدول الأطلنطية كاسبانيا و البرتغال ومن بعدهما بريطانيا وفرنسا , وتدفقت
سيول الذهب إلى أوروبا من الجانب الآخر للمحيط ونشأت خطوط الملاحة الغزيرة بين
الممالك الأوروبية ومستعمراتها الأمريكية , وانطلقت أفواج المغامرين الباحثين عن
الثروة والمضطهدين الدينيين الفارين بمعتقداتهم إلى الأرض الجديدة التي كانت
ثرواتها ما تزال عذراء لم تستغل بعد , ومن هذه الأفواج المتباينة الأجناس سينشأ
بعد عدة قرون شعب أمريكا الشمالية الأبيض , أما شعب أمريكا الجنوبية والوسطى , فقد
كان بمعظمه مكونا من البرتغاليين في البرازيل و الأسبان في بقية القارة إلى جانب
أعداد من السكان الأصليين , وازداد الازدهار التجاري بالتفاف فاسكو دو غاما حول
رأس الرجاء الصالح ووصوله إلى الهند حيث أوجد طريقا بحريا موصلا إلى الهند مباشرة
, فوفر ذلك على البرتغال الضرائب الباهظة التي كانت تدفعها تجارتها للوسطاء العرب
و الإيطاليين , واختصرت الطريق التجارية التي كانت قبلا تمر بأوروبا كلها قبل
الوصول إلى البرتغال , ولم تكد تمضي فترة من الزمن , حتى كانت الهند وجزر المحيط
الهندي والسواحل العربية العماني قد سقطت بيد الأوروبيين الذين وصلوا أيضا إلى
الصين و اليابان على شكل بعثات تبشيرية هدفت إلى هداية تلك الشعوب إلى الدين
المسيحي وإلى نشر الثقافة الأوروبية الجديدة في أوساطهم .
أما السيادة القومية , فكان تعزيزها إحدى نتائج الحروب الصليبية
الداخلية إذ قوت الرابطة العرقية على حساب الرابطة الدينية . كذلك كانت الحروب
الأوروبية داعما آخرا للسيادة القومية فالمدفع العظيم الذي زلزل القسطنطينية وهدم أسوارها
انتقل إلى الممالك الأوروبية جميعها ليهدم الحصون الإقطاعية ويفرض النفوذ الملكي
على جميع أنحاء البلاد , فتحول الأمراء الإقطاعيون إلى نبلاء , وانسحبوا من قلاعهم
وقصورهم الريفية ليحلوا على القصور الملكية حاشية للحاكم , وإذ كان النفوذ البابوي
الديني قد انعدم عمليا على الممالك المتمردة , وكانت سلطة الأمراء والنبلاء قد
أضحت ماضيا وحلما , فقد مهد هذا لقيام الملكية المطلقة التي لاتحد سلطانها أي قوة
, وظهرت تباشير هذه الملكية في تعيين الملك البريطاني هنري الثامن نفسه رئيسا
للكنيسة الإنكليزية , ووصلت إلى ذروتها في القول المشهور لملك فرنسا لويس الرابع
عشر : أنا الدولة . إلا أن هذا الاستبداد والحكم المطلق لم يلبث أن فجر النقمة
والسخط الشعبيين , فشنق البريطانيون ملكهم و استوردوا من هولندا وألمانيا ملوكا
لهم , وفجر الفرنسيون ثورتهم على الملكية وأحالوا الحكم إلى الشعب , إلا أن الخضوع
للاستبداد كان على ما يبدو جاريا في عروقهم , فبعد خمسة أعوام من قيامهم بالثورة
نصبوا نابليون بونابرت إمبراطورا عليهم
ليغرق أوروبا في دمائها طوال عقدين من الزمن .
أخيرا كان هناك الفن , كان الفن السائد في شمال أوروبا غوطيا , وفي
جنوبها الإيطالي بيزنطيا , وكانت مواضيعه على الأغلب دينية تمثل مقاطعا من الإنجيل
والعهد القديم ولقطات من حياة القديسين , فلما جاءت النهضة وانبعثت آداب اليونان
من جديد , اتخذت المواضيع الوثنية سبيلها إلى الفن الإيطالي , وظهرت صور الربات
والأرباب الإغريق عارية واقعية , واستبدلت بلوحات الأبطال الإغريق وصور الملاحم
القديمة والربات اللواتي ينضحن بالأنوثة والأرباب المفعمين رجولة لوحات الولادة
والعماد والعشاء الرباني والصلب والصعود , وكان أهم مميزات الفن في هذا العصر
تفضيله الجمال على الحقيقة , وحظي الفنانون بدعم البابوات و النبلاء الإيطاليين ,
وإذ تجمعت أموال أوروبا طوال قرون في الخزينة البابوية , فقد خرجت الآن منهما
مجددا لتدعم الفنانين والمثالين الموهوبين , وتزينت أروقة الفاتيكان وقصور روما و
إيطاليا بالروائع الفنية , وضرب البابوات صفحا عن اللوحات الشهوانية السافرة التي
تعج بالعري الوثني مقابل بعض اللوحات و الأعمال الدينية التي أدهشت العالم
الأوروبي بعظمتها , كتمثال موسى والعذراء المنتحبة والعشاء الأخير وغيرها من
الروائع , وفي الشمال الجرماني ظهر الفن الفلمنكي الذي فضل تصوير الحياة الشعبية
على تصوير الآلهة , وقدم للفن الأوروبي بدوره أعمالا دينية قيمة كمعجزة القديس
أنطوان كما قدم له لأول مرة الألوان الزيتية , أوروبا الآن في القرن السادس عشر
مفعمة بالحيوية والحياة , ومستقبل مثير ينتظرها في القرون الخمسة القادمة .